
يقف القرن الإفريقي من جديد على حافة صراع عسكري وشيك، حيث تجد كل من إريتريا وإثيوبيا منخرطتين في مناورات جيوسياسية شديدة الخطورة. هذه الأزمة الآخذة في التصاعد لم تعد مجرد خلاف ثنائي، بل باتت نزاعاً تُحركه اصطفافات متضاربة قد تُعيد صياغة موازين القوى الإقليمية لعقود قادمة.
وفي حين يسعى الرئيس الإريتري إسياس أفورقي إلى إذكاء جذوة عدم الاستقرار لتحقيق طموحاته الواسعة، فإن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد هو من يُصعد وتيرة التوتر بوضوح أكبر، من خلال خطابات تصعيدية وتحركات استراتيجية. تُشير الترتيبات الحالية إلى وجود كتلتين متواجهتين:
الجبهة الأولى: تضم إريتريا، تيغراي، فصائل من الأمهرة، مصر، الفريق أول عبد الفتاح البرهان – السودان، والمملكة العربية السعودية.
الجبهة الثانية: يقودها حزب الازدهار برئاسة آبي أحمد، وتضم الإدارة الأورومية، قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، بالإضافة إلى إيران والإمارات العربية المتحدة—وذلك بهدف معلن يتمثل في تأمين منفذ بحري مستقل لإثيوبيا على البحر الأحمر بالقوة.
حسابات تيغراي الاستراتيجية
قبل أربعة أعوام، قاد إسياس حملة عسكرية واسعة النطاق ضد تيغراي، حشد فيها القوات الإثيوبية وداعمين أجانب لمواجهة الإقليم. أما اليوم، فقد تبدلت موازين القوى بشكل لافت—حيث يبدو أن قادة تيغراي يُصطفون الآن إلى جانب إريتريا في مواجهة حاسمة محتملة ضد آبي أحمد.
بعد اتفاق بريتوريا للسلام، لم تحصل تيغراي سوى على هدنة هشة. فلا يزال الآلاف من النازحين داخليًا يفتقرون إلى مأوى، ولا تزال أراضيهم تحت سيطرة الأمهرة، كما تستمر شرعيتهم السياسية في التآكل. في ظل هذه الظروف القاسية، لم يبقَ أمامهم خيار سوى التوجه شمالاً نحو إريتريا بحثاً عن الأمان والاستمرارية.
إذا ما تضافرت جهود القوات الإريترية والتيغرانية، فقد يتمكنان من تحقيق انتصار مماثل لانتصارهما التاريخي في عام 1991، الأمر الذي قد يجبر القوات الإثيوبية على التقهقر إلى أديس أبابا. في مثل هذا السيناريو، من المرجح أن يتدخل المجتمع الدولي بقوة، ليُمارس ضغوطاً على آبي أحمد للتفاوض بشأن تشكيل حكومة ائتلافية. من شأن ذلك أن يمنح تيغراي فرصة سانحة لاستعادة أراضيها وربما تأكيد حقها في تقرير المصير.
لكن لا ينبغي التقليل من شأن طموحات إسياس أفورقي الاستراتيجية بعيدة المدى. فحتى في حال تشكيل حكومة ائتلافية، قد يسعى للمناورة ببراعة من أجل الإبقاء على تيغراي تحت نفوذه، الأمر الذي سيعزز سلطته على كل من إريتريا وإثيوبيا.
العلاقة المزعومة بين قادة جبهة تحرير شعب تيغراي وإريتريا
تنبع الأقاويل الرسمية وغير الرسمية التي تدور حول اتفاق محتمل بين إريتريا وتيغراي من تداعيات الصراع الداخلي المستمر في إثيوبيا من جهة، ومن تصرفات أسياس أفورقي من جهة أخرى. قد ينظر بعض القيادات في تيغراي إلى هذا الخيار كخطوة استراتيجية للخروج من المأزق الحالي. إلا أن أي اتفاق من هذا النوع يحمل في طياته مخاطر جسيمة على كلا الطرفين.
لقد ترسخت وحدة الإريتريين – سواء كانوا من سكان المنخفضات أو المرتفعات، مسلمين أو مسيحيين – على مدار سنوات من النضال المشترك، وهي ليست سهلة المساس. ومع ذلك، لا تزال هناك مخاوف لدى بعض المكونات المجتمعية بشأن التداعيات المحتملة لاتفاق تيغراي وإريتريا. يتخوف البعض من أن يؤدي هذا الترتيب إلى تعميق الانقسامات الاجتماعية والسياسية القائمة، والتي تفاقمت بالفعل جراء سياسات النظام الحالي.
تُمثل هذه القضية تحديًا إضافيًا للحركات السياسية الإريترية التي تُطالب بالوحدة والعدالة والسلام. في غضون ذلك، أعرب العديد من أبناء تيغراي عن قلقهم من أن ارتباط تيغراي بدولة ذات سيادة أخرى، حتى وإن بقيت جزءًا من إثيوبيا، قد يُوتّر العلاقات الدبلوماسية بأساليب قد لا يقبلها النظام الحاكم.
في نهاية المطاف، فإن المسار الأمثل هو ذلك الذي يضمن التعايش السلمي، ويحترم السيادة ويعزز الاستقرار للجميع.
العامل السوداني: طموح إقليمي جديد؟
بالإضافة إلى إثيوبيا، يتزايد ارتباط مصير السودان بشكل وثيق بهذه ال-ح-رب المحتملة. فإذا ما خرج إسياس منتصراً، قد تمتد طموحاته إلى ما هو أبعد من الحدود الإثيوبية. فقد قامت إريتريا بالفعل بتدريب جيش قبلي من بني عامر، مُجهز لاحتلال شرق السودان—وهو إقليم لطالما كان مطمعاً للفصائل الإريترية التوسعية. وفي خضم الفوضى الداخلية التي تعصف بالسودان، قد يُبدي الجنرال السوداني عبد الفتاح البرهان استعداداً للتنازل عن شرق السودان مقابل الحصول على دعم عسكري من إريتريا لتأمين السيطرة على الخرطوم ودارفور.
وفي حال تحقق هذا السيناريو، فسوف يتوسع النفوذ الإريتري بشكل غير مسبوق، الأمر الذي سيُغير من سيادة السودان ويُعزز هيمنة إريتريا على منطقة القرن الإفريقي بأكملها.
المعارضة الإريترية: مفترق طرق حاسم
على مدى ثلاثة عقود، اضطلعت أحزاب المعارضة والمنظمات المدنية الإريترية بدور حيوي في الدعوة إلى التحول الديمقراطي، وإرساء سيادة القانون، وتحقيق العدالة، وتأسيس حكم دستوري. بيد أن فعاليتها قد شُلت إلى حد كبير جراء ضعف القيادة، والانقسامات الداخلية العميقة، وعمليات الاختراق المُمولة من الحكومة الإريترية.
لقد باءت محاولات عديدة لتشكيل جبهة سياسية موحدة بالفشل، حيث آثر القادة تعزيز منظماتهم الخاصة بدلاً من تعزيز العمل الجماعي المشترك. وعلى الرغم من صياغة مواثيق متطابقة وتعديلها مراراً وتكراراً، لم تظهر شجاعة جماعية حقيقية لتوحيد الصفوف. بل على العكس، استجاب القادة لنداءات قواعدهم بتقوية منظماتهم أولاً، على أمل أن يبرزوا بقوة في مؤتمر عام مستقبلي. لقد أضعفت هذه الاستراتيجية قصيرة النظر المعارضة بشكل كبير، بل وأثرت سلبًا على الحركات المدنية أيضاً.
وعلى الرغم من هذه التحديات الجسيمة، تمكنت ثلاث تحالفات معارضة بارزة—المجلس الوطني الإريتري للتغيير الديمقراطي (ENCDC)، القوى السياسية الإريترية (EPF)، وتحالف التغيير الديمقراطي الإريتري (ECDC)—من بناء هيكل دبلوماسي فعال وإنجاز مهمتين إلى ثلاث مهام أساسية. تُعتبر هذه المجموعات الأقرب لتشكيل معارضة قادرة على إحداث تأثير ملموس في مسار الأحداث، سواء قبل اندلاع ال-ح-رب أو في أعقابها.
نافذة الفرصة: التوحد أو الزوال
إن الفرصة الوحيدة المتاحة أمام المعارضة الإريترية الآن هي اغتنام هذا المنعطف الحاسم. يجب عليها أن تتوحد دون شروط مسبقة، وأن تُفعّل مواثيقها، وتُقدم تعهداً صريحاً للشعب الإريتري بإنهاء الصراعات الداخلية. لا بد من إعادة تنشيط دورها السياسي، والانتقال من حالة الجمود إلى الفعل الحاسم والفاعل.
إذا ما تمكنت المنظمات الثمانية والثلاثون المجزأة من الاندماج في ثلاث تكتلات رئيسية، فإنه بالإمكان تشكيل برلمان منظم في المنفى—كيان قادر على صياغة مستقبل إريتريا بدلاً من الاكتفاء بمشاهدتها تنهار بصمت وأيادٍ مكتوفة.
لم يعد بمقدور الشعب الإريتري تحمل المزيد من التأخير أو التردد. الآن هو وقت العمل الحاسم. يجب على المعارضة أن تتجاوز انقساماتها وتلتزم بجبهة موحدة. فالخيار بات واضحًا ومصيرياً: أن تكون أو لا تكون.
الطريق إلى الأمام: ال-ح-رب أم الدبلوماسية؟
إن المسار الأمثل لكل من إريتريا، إثيوبيا، تيغراي، والسودان يكمن في تجنب ال-ح-رب والسعي الحثيث نحو حلول سلمية لأزماتهم المتراكمة. فالتسوية الدبلوماسية التي تُعالج قضايا الديمقراطية والعدالة والإصلاحات الدستورية ضمن إطار السيادة الوطنية لكل بلد، تُعد الخيار الوحيد القابل للاستمرار لضمان استقرار طويل الأمد للمنطقة.
لكن في حال أصبح الصراع المسلح حتمياً، فإن المنطقة ستواجه ثلاثين عاماً أخرى من الدمار والخراب. والواقع الذي سيتشكل بعد ال-ح-رب سيكون محفوفاً بالغموض والتغيير، تتأثر ملامحه بالمطالبات الإقليمية المتغيرة والتحالفات الهشة وغير المستقرة. أما أولئك الإريتريون الذين يؤيدون ال-ح-رب بناءً على اعتقاد خاطئ بأن إزالة آبي أحمد أسهل من إزالة إسياس، فإنهم يرتكبون خطأً فادحاً. فبدون اتفاق ملزم يضمن سيادة إريتريا، قد لا يتخلى آبي أبداً عن طموحاته في السيطرة على أراضٍ إريترية—وخاصة ميناء عصب الاستراتيجي.
الخاتمة: مفترق طرق مصيري
يقف القرن الإفريقي اليوم عند نقطة تحول تاريخية وفارقة. إن القرارات التي ستُتخذ خلال الأشهر القادمة هي التي ستُحدد ما إذا كانت المنطقة ستغرق في دوامة ح رب مدمرة طويلة الأمد، أو ستنجح في تفادي كارثة وشيكة. التحولات الجيوسياسية لا تُمهل المترددين. ومن يختار تجاهل التحذيرات اليوم، سيُجبر على مواجهة تبعات ال ح رب المُرّة غداً—سواء رغب في ذلك أم لم يرغب.
* نقلاً عن افتتاحية أنفيت 27 مايو 2025
Leave a Reply