
زكريا نمر
كاتب من جنوب السودان
عندما تنهار دولة، سواء نتيجة انقلاب أو حرب أهلية أو ثورة شعبية، لا يتوقف الصراع عند لحظة السقوط، بل يبدأ فصل جديد أكثر تعقيدًا مرحلة البناء وإعادة التأسيس. تُعتبر فترة ما بعد الانهيار من أكثر الفترات حساسية في تاريخ الأمم، حيث تتداخل الأحلام الشعبية مع الحقائق السياسية والاقتصادية، وتظهر تحديات معقدة تتطلب حلولًا سريعة وحاسمة. فكيف يمكن لدولة نفضت غبار الانهيار أن تؤسس مشروعًا جديدًا للبقاء والنهضة؟
أحد أبرز التحديات وأكثرها خطورة هو الفراغ المؤسسي، حيث تنهار الهياكل الحاكمة ويُستبدل النظام السابق دون وجود بديل جاهز. في ظل هذا الفراغ، تتنافس قوى متعددة على النفوذ، مثل الفصائل المسلحة والتيارات الأيديولوجية والجيوش القبلية أو الطائفية، بالإضافة إلى التدخلات الخارجية، مما يؤدي إلى اضطراب خطير في توازن القوى. ويتحول المشهد إلى صراع على السلطة بدلًا من التركيز على بناء سلطة جديدة.
غالبًا ما يعكس الانهيار خللًا عميقًا في الهوية الجامعة. فعندما تسقط دولة كانت تُبنى على الإقصاء أو الاستبداد، تظهر التصدعات القديمة: صراعات عرقية وطائفية وجهوية، مما يجعل من الصعب التوافق على تعريف من نحن؟ ولمن تنتمي الدولة؟ لذا، يصبح بناء هوية جامعة أولوية قصوى لإرساء عقد اجتماعي جديد.
تُعتبر العدالة الانتقالية أداة مهمة لتحقيق توازن دقيق بين محاسبة المسؤولين عن النظام السابق وضمان عدم انزلاق البلاد إلى دوامة جديدة من الانتقام. تتطلب قضايا مثل جرائم الحرب، الفساد، والانتهاكات وجود مؤسسات مستقلة، ومجتمع مدني نشط، وإرادة سياسية تضع المصالحة فوق المصالح الفئوية.
غالبًا ما تُترك الدولة المنهارة بموارد مستنزفة وبنية تحتية مدمرة، مما يدفع المجتمع للعيش على المساعدات. يبدأ التحدي الاقتصادي من سؤال محوري: هل نبدأ بإطعام الناس أم ببناء المؤسسات؟ قد تُستخدم برامج إعادة الإعمار كوسيلة لتعزيز شرعية الحكم الجديد، لكنها قد تقع في فخ الفساد أو التبعية الاقتصادية للخارج، إذا لم تكن مدعومة بخطط تنموية شاملة واستراتيجيات مستقلة.
في العديد من الدول، التي شهدت انهيارًا دراماتيكيًا، تبرز المؤسسة العسكرية كفاعل رئيسي، إما كمنقذ أو كوصي. وتظهر مشكلة عسكرة المرحلة الانتقالية عندما يرفض العسكريون العودة إلى الثكنات، ويسعون بدلًا من ذلك للهيمنة على الدولة الجديدة. وهنا تبرز إشكالية العلاقة بين السلطة المدنية والعسكرية من يضمن حياد الجيش؟ ومن يضبط سلاحه؟
تتحول الدولة المنهارة إلى فريسة سهلة لمصالح إقليمية ودولية، حيث تتنافس القوى الكبرى على النفوذ وتعمل على دعم أطراف النزاع الداخلي لضمان مصالحها. هنا يبرز سؤال السيادة: كيف يمكن بناء دولة حرة وفعالة في نظام عالمي لا يعترف إلا بالأقوياء؟ وما هو دور المجتمع الدولي؟ هل هو داعم أم متلاعب؟
من أخطر التحديات، التي تلي الانهيار هو فقدان الثقة الشعبية في مفهوم الدولة نفسها، خاصة إذا ارتبطت في أذهان الناس بالقمع والفساد. في هذه الحالة، يصبح مشروع البناء رمزيًا قبل أن يكون ماديًا: كيف يمكن إقناع الناس بأن هذه الدولة تمثلهم، وليست ضدهم؟ كيف يمكن إعادة صياغة العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أسس التمثيل والمساءلة والكرامة؟
إن بناء الدولة بعد الانهيار ليس مجرد مهمة فنية أو قانونية، بل هو معركة من أجل الوعي، وإرادة جماعية، وإيمان عميق بإمكانية النهوض. تخبرنا التجارب التاريخية أن الطريق طويل ومليء بالعقبات، لكنه ممكن. فكل أمة شهدت الانهيار وواجهت الفوضى، التي تليه، تستطيع أن تعود إلى الحياة… إذا آمنت أن السقوط ليس نهاية، بل بداية جديدة تُكتب بحبر المعاناة وإرادة الصمود.
Leave a Reply