
عزالدين بك
لطالما نظر إلى المثقف باعتباره ضمير المجتمع، عينًا ساهرة ترصد الانحرافات، وصوتًا مدويًا يصدح بالحقائق حتى في وجه السلطان. لكن، وفي أزمنة التحولات العاصفة، يبرز سؤال ملح: لماذا يجد بعض المثقفين أنفسهم أقرب إلى معسكرات القوة الصلبة، تحديدًا في أحضان المؤسسة العسكرية؟ هل هو تهافت للقيم، أم قراءة جديدة للواقع، أم ضرورة تفرضها تعقيدات المرحلة؟
لا شك أن العلاقة بين المثقف والسلطة علاقة شائكة ومعقدة، تتأرجح بين النقد والموالاة، بين المساءلة والتبرير. وفي الحالة التي نتناولها، يصبح هذا التقارب أكثر إثارة للجدل، إذ يُنظر إلى المؤسسة العسكرية تقليديًا على أنها أداة قسر وإكراه، بينما يُفترض في المثقف أن يكون حاملًا لقيم الحرية والتفكير النقدي.
هناك عدة زوايا يمكن من خلالها محاولة فهم هذه الظاهرة، وإن كانت لا تبررها بالضرورة. ففي بعض السياقات، قد يرى بعض المثقفين في المؤسسة العسكرية حصنًا للأمة في وجه تهديدات وجودية، أو رمزًا للاستقرار والنظام في فوضى متصاعدة. قد ينبع هذا من يأس من الطبقة السياسية المدنية وعجزها عن تحقيق تطلعات الشعب، أو من خوف حقيقي من قوى خارجية تسعى لزعزعة الاستقرار.
في المقابل، قد يكون الدافع لدى بعض المثقفين هو البحث عن النفوذ والمكانة، أو الحصول على امتيازات ومكاسب مادية في ظل نظام قوي ومسيطر. هنا، يصبح المثقف أداة لتبرير سياسات السلطة وتجميل صورتها، بدلًا من أن يكون صوتًا مستقلًا ونزيهًا. وقد يتجلى ذلك في ترويج روايات أحادية، وتجاهل الحقائق المؤلمة، وتشويه صورة المعارضين.
لا يمكن أيضًا إغفال دور السياق التاريخي والاجتماعي في تشكيل هذه العلاقة. ففي مجتمعات عانت من صراعات داخلية أو تهديدات خارجية، قد يرتفع صوت “الضرورة الوطنية” فوق كل اعتبار، ويصبح الانحياز إلى المؤسسة العسكرية خيارًا “واقعيًا” في نظر البعض. كما أن ضعف المؤسسات المدنية وغياب التقاليد الديمقراطية الراسخة قد يدفع بعض المثقفين إلى البحث عن قوة قادرة على فرض النظام وتحقيق بعض الاستقرار، حتى وإن كان ذلك على حساب الحريات.
لكن، يبقى السؤال الأهم: ما هي الكلفة الحقيقية لهذا التقارب؟ عندما ينخرط المثقف في تبرير سلطة قد تكون قمعية، فإنه يخون دوره الأساسي كحارس للقيم وناقد للسلطة. يصبح جزءًا من المشكلة بدلًا من أن يكون جزءًا من الحل. وتتآكل بذلك ثقة الجمهور في النخب الفكرية، ويصبح من الصعب التمييز بين الصوت الحر والصدى الموجه.
إن تهافت بعض المثقفين إلى أحضان العسكر يمثل علامة استفهام كبيرة حول وضع النخب الفكرية ودورها في مجتمعاتنا. إنه يدعونا إلى التفكير بعمق في مسؤولية المثقف، وفي التحديات، التي تواجهه في ظل الأنظمة السلطوية أو في أوقات الأزمات. فالمثقف الحقيقي هو، الذي يظل وفيًا لقيم الحق والعدل والحرية، حتى وإن كان ذلك يعني الوقوف وحيدًا في وجه التيار. إن قوة الكلمة والفكر النقدي هي أدواته الحقيقية، ولا يمكن استبدالها بسلطة زائفة أو مكاسب مؤقتة.
Leave a Reply