
د.معاوية الشفيع
ولدتُ وترعرعت ودخلت المدرسة في قرية في ولاية حيدر أباد، درست الهندسة في جامعة “مدراس” بولاية تاميل نادو، لم أكن خلال دراستي الجامعية طالباً متفوقاً، لكنني كنت أجيد إحراز الدرجات التي تؤهلني للانتقال للصف التالي، لذلك تخرجت في زمن وجيز نسبياً، وبالكاد وجدت وظيفة في ولاية مجاورة، لكنها لم تكن كافية لتقيم أودي، ناهيك عن مساعدة أسرتي التي تشتمل على ثلاث من البنات ولم ينعم الله على أبوي بذكر غيري، مما يعني أنه يتوجب علىّ توفير مهور (دوري dowry) شقيقاتي إن أردنا لهنَّ زواجاً.
باختصار -أرجو ألا يكون مخلًا- لم يكن عملي يوفر دخلاً يفي بكل متطلبات أسرتي الكبيرة، وتكوين أسرتي الصغيرة فيما بعد، فكان لا بد من التفكير في البحث عن حظ أوفر ودخل أكثر خارج الهند. بكت أمي ولف الحزن والاكتئاب أبى، لكن لم يكن هنالك بد من الرحيل ولا مهرب من الاغتراب.
حزمت حقائبي وسافرت إلى إحدى الدول البترولية العربية الخليجية، ونجحت في العمل مع إحدى الشركات وكسبت مالاً وفيراً حقق معظم- إن لم يكن كل- آمالي. فقط لم أتزوج وأنا قد ذرَّفت على الخمسين، لكن عندي من المال ما يجعل تحقيق هذا الحلم سهلاً ميسوراً، خاصة مع تفشي العنوسة التي ضربت أرجاء الهند وربما كل العالم.
المهم إننيٍ عدت أحمل- فيما أحمل- قراراً بالبقاء والعمل في الوطن، فرحت به أسرتي التي تضخمتبانضمام أنسبائي، وقدوم أطفال أخواتي كثيراً، وصار شغلهم الشاغل تزويجي أنا من الفتاة التي تستحقني على حد تعبيراتهم، طمأنتهم بأنني سأتزوج وعاجلًا، غير أن عبء اختيار زوجتي يقع علىَّ أنا دون سواي، وليس عليهم كما جرت عاداتنا، وافقوا على مضض بشرط أن أنجز ذلك خلال أشهر لا تزيد عن الستة.. هنا أرجو أن أنبهكم يا سادتي بأن القصة التي من أجلها كتبت لم تبدأ بعد…
بدأت القصة عندما دخلت في شراكة عمل مع صديق تعرفت عليه في الغربة، ونحن في الهند نقول: صديق الغربة معدنه نفيس. كان هذا الصديق قد تعاقد مع وزارة الأشغال في ولاية البنجاب على ترميم بعض المستشفيات وصيانة أجهزتها الطبية (العمل الذي أتقنته في بلاد الغربة). لا أطيل عليكم، ذات يوم وأنا مشغول بصيانة أحد الأجهزة في إحدى المستشفيات رأيتها، يا إله السماوات… كانت ترتدي الساريه الهندي، سمراء في لون العسل، عيناها سوداوان، ذكيتان، و(حاجباً حارسِن سفاح) كما غنى النعام آدم، في بياضهما إحمرار خفيف، هل من غضب؟ أم من علة؟ (عرفت فيمابعد أنها تعاني من الرمد الربيعي، فلعنت الرمد والربيع، معاً). لكن ذلك حدث لاحقاً، فالحق أنني لم أحفل بها كثيراً في ذلك الوقت إلا بقدر ما جعلني أسأل:
– من هذه.؟؟
– طبيبة..
– ولماذا ترتدي الساريه؟
– أطباء الأطفال لا يلبسون البالطو، لأنه “يرعب” مرضاهم.
بعد ذلك تعددت لقاءاتي بالدكتوره (ليساما)، وكان هذا اسمها. شعر كلانا بإلفة سريعة نحو الآخر. كنت عندما أنهي بعض عمل أمنح نفسي استراحة فأذهب إليها في مكتبها، ولو لم تكن منشغلة فهي ترحب بي، وتطلب لي الشاي والفطائر وبعض الحلوى. وعندما تعمقت علاقتنا أكثر غمرتني بكرمها الفياض وعديد الهدايا.
تحادثنا كثيراً، في الواقع كنت أنا المتحدث في غالب الوقت، وكانت هي مستمعة جيدة، من أحاديثنا تلك عرفت أنها ما تزال بعد عازبة رغم أنها شارفت على الأربعين، هي بالإضافة لجمالها ومركزها من أسرة ميسورة، لذا فقد سعى كثيرون للاقتران بها لكنها كانت ترفضهم لأسباب تعرفها هي، وربما لا تقنع أحداً غيرها، كانت ولعلكم تعجبون، ليست متعجلة للزواج ولا تمانع في العيش بلا زوج، طوال العمر..
أرجو ألا يتبادر إلى أذهانكم سيداتي وسادتي أنها تعيش حياة منطلقة، صاخبة، لا، فقد كانت على العكس من ذلك تميل إلى المحافظة، تكرس أغلب وقتها لمرضاها في المستشفى، وتزور الكثيرين منهم في منازلهم، كما يزورونها للعلاج أو المجاملة في بيتها الذي تتقاسمه مع أمها فقط.
مرة بينما نسمر هي وأنا في أجواء بالغة الودية رن هاتفها، وعندما شرعت في الرد اكتسى وجهها بجدية معروفة عنها، ثم زمَّت شفتيها الكاكاويتين مخفية أسناناً، نضيدة ناصعة البياض، لطالما شغفت بهما نظراً وقالت باقتضاب:
– أنا جاياكم هسَّه.
وضعت هاتفها السيار أمامي على المنضدة ونظرت في عينَيَّ بتركيز، وقالت:
– لو اتصلوا تاني قول ليهم: ما تتحركوا، أنا في الطريق.
خرجت وهي تعدو، نظرت إليها خارجة جارية فهالني رغم الظرف الطارئ ضمور خصرها، النحيل جداً، وترجرج كفلها في لوحة جمالية متناسقة وبديعة. لعنت “بهيميتي”
يتبع،،،،،
Leave a Reply