
▪️ أضواء
“الحرية الاقتصادية ليست أن تُترك وحدك في السوق، بل أن تُعطى الأدوات لتخلق السوق نفسه.” — بهذه العبارة يمكن تلخيص الرؤية الاشتراكية المعاصرة لدور ريادة الأعمال، كفعل إنساني لا مجرد مغامرة رأسمالية. ففي عالم يتغير بوتيرة متسارعة، حيث تتآكل الحدود بين الدول والأسواق، وتُعاد صياغة المفاهيم التقليدية للإنتاج والعمل، ينهض رواد ورائدات الأعمال بوصفهم الفاعلين الجدد في الاقتصاد – لكن السؤال الجوهري يظل: أي نوع من الريادة نريد؟ ولمصلحة من تُدار هذه الريادة؟ وهل يمكن لاقتصاد وطني، مثل السودان، أن يعيد تشكيل هويته الاقتصادية من خلال تمكين الريادة الواعية، لا الريادة المنفلتة من كل قيمة؟
ريادة الأعمال: بين نموذج السوق ونموذج التحرير
في السياق العالمي، تم اختزال مفهوم ريادة الأعمال في شعارات النجاعة، الربح والابتكار التكنولوجي، وهو اختزال مفيد للسوق ولكنه ناقص للمجتمع. فالمشروع الريادي، في منطوق النيوليبرالية، هو مقاولة فردية ناجحة تجني الأرباح وتخلق الوظائف – لكنها قلما تُسائل العدالة، أو تعيد توزيع الثروة، أو تبني التضامن.
أما في الرؤية الاشتراكية–التحررية، التي تشكل أحد ركائز فكر البعث، فإن الريادة الحقيقية هي فعل تحريري: تمكين للإنسان ليخرج من أسر الفقر، والبطالة، والاعتماد، نحو المشاركة الفاعلة في إنتاج الثروة وتوزيعها على أساس الكرامة لا العطايا. هي انتقال من أن يكون المواطن مستهلكاً متلقياً إلى أن يكون فاعلاً اقتصادياً مسؤولاً. فـ”الاشتراكية ليست عداءً للريادة، بل ضمانة لأن تكون الريادة للجميع، لا امتيازاً لفئة.”
السودان( أنموذجاً) وريادة الخروج من الركام
في واقع اقتصادي ممزق بفعل الحرب، التشظي الجغرافي، وانهيار الدولة، تبرز ريادة الأعمال بوصفها إحدى القنوات النادرة لاستعادة دورة الحياة: من المخابز المتنقلة في الأحياء المحاصرة، إلى مبادرات المرأة في الصناعات الغذائية، إلى شركات ناشئة في الطاقة الشمسية خارج المركز – كلها تجارب تقول إن الروح الإنتاجية للشعب لم تُهزم، بل تبحث عن مناخ يحميها، ويحررها من القهر، والاحتكار والزبونية.
لكن هذه الريادة مهددة بالتحول إلى “اقتصاد الضرورة”: مشاريع صغيرة تنشأ لتُبقي العائلة على قيد الحياة، لا لتغير الاقتصاد. ما لم تُدرج في إطار رؤية وطنية، وسياسات تمويلية، وعدالة في البنية التحتية والفرص، ستظل هذه المبادرات محكومة بالهشاشة.
ريادة نسوية: القوة الصامتة التي تنهض من الركام
اللافت أن النساء كنّ ولا يزلن الطليعة غير المُحتفى بها في مشهد الريادة السوداني(أنموذجاً)، خاصة في مجالات الإنتاج الغذائي، الحرف اليدوية، المشروعات الأسرية والتعليم غير النظامي. هذا الحضور النسوي ليس مجرد واقع اجتماعي، بل إمكان اقتصادي استراتيجي، يتطلب إعادة هيكلة الخطاب الاقتصادي نفسه: من “التمكين بالمنح”، إلى “الشراكة في الإنتاج”.
إن استثمار الدولة في دعم رائدات الأعمال في الريف والحضر، ليس ترفاً سياسياً، بل خيار تنموي ذكي. ويكفي أن نشير إلى أن النساء يشكلن أكثر من 60% من القاعدة العاملة غير الرسمية في السودان، مما يعني أن أي تحول اقتصادي لا يستوعب هذا الفعل النسوي هو تحول أعرج، وفاقد للرؤية.
منظور البعث: ريادة الأعمال كرافعة للعدالة
يرى حزب البعث العربي الاشتراكي أن أي مشروع اقتصادي لا يعيد الاعتبار للإنسان كمنتِج واعٍ، هو مشروع معطوب. ومن هذا المنطلق، فإن ريادة الأعمال ليست بديلاً عن القطاع العام، ولا خصماً على القطاع التعاوني، بل مكوّن ثالث يجب أن يُنظّم ويُخطّط له في إطار رؤية وطنية للعدالة الإنتاجية.
وتطرح الاشتراكية البعثية نموذجاً بديلاً لريادة الأعمال، يقوم على المبادئ التالية:
• أولوية المشاريع ذات القيمة الاجتماعية (التعليم، الصحة، الزراعة والطاقة المتجددة).
• تفضيل الريادة التعاونية (جمعيات إنتاجية، مشروعات شراكة مجتمعية) على المقاولة الفردية المنعزلة.
• خلق مؤسسات تمويل صغيرة وطنية (بنوك للريادة) تدار بشفافية، دون وسطاء طفيليين.
• إدراج الريادة في استراتيجية وطنية للإنتاج، لا فقط للاستهلاك المحلي.
خاتمة: من ريادة الأفراد إلى مشروع الأمة
في زمن تتفتت فيه الدول، ويضعف فيه التخطيط المركزي، تصبح ريادة الأعمال أداة لإعادة إنتاج المجتمع. لكن الرهان الأكبر ليس في عدد المشاريع، بل في نوع الرؤية التي تحكمها. فإما أن نترك الريادة تتشكل على هوى السوق، وتخضع لتوازنات الحرب والسلام، وإما أن نحولها إلى مشروع وطني جامع، يحرر المواطن من التبعية، ويعيد الاعتبار لمفهوم العمل كقيمة لا كعقوبة.
إن الاشتراكية الشعورية — وهي اشتراكية الكرامة والثقة لا القمع أو الشعارات — تجد في ريادة الأعمال حليفاً لا خصماً. ومن هنا، فإن افتتاح صفحة جديدة في الاقتصاد الوطني يجب أن يبدأ من سؤال بسيط: كيف نخلق أبطالاً اقتصاديين من داخل الأحياء، لا من خارج الوطن؟ فالإنتاج، حين يكون فعل تحرر، يصبح السياسة الأصدق، والهوية الأعمق، والمستقبل الأضمن.
Leave a Reply