
أ. محمد شريف، د.منال حسن مختار، أ. طارق عبد اللطيف ابوعكرمة*
مقدمة:
“إنما الأممُ الأخلاقُ ما بقيتْ فإن هُمُ ذهبتْ أخلاقُهم ذهبوا” — هكذا أنشد أمير الشعراء أحمد شوقي، في بيتٍ لا يفقد راهنيته. فإذا كانت الأخلاق جوهر بقاء الأمم، فإن وسائط نقلها وتشكيلها لا تنحصر في المدرسة والمنبر والمسرح، بل تمتد إلى ميادين قد تبدو للوهلة الأولى بعيدة عن الذهن الأخلاقي — ومنها “الملعب”.
في السودان، حيث يتقاطع جرح الح-رب مع جمود التعليم وتفكك الفضاء الثقافي، تبدو الرياضة بوصفها وسيلة للترفيه خيارًا عاديًا، بل “ترفًا”. غير أن الفهم العميق لدورها يُعيدنا إلى جذر مغاير: أن الرياضة ليست محض حركة، بل “ثقافة جسد وروح”، كما ذهب إلى ذلك فلاسفة التربية وعلماء الاجتماع الثقافي. إنها خطابٌ غير لفظيّ، يُمرَّر عبر الجسد المنتظم، والنَفَس الجماعي، والسلوك المتكرر، لا عبر النص وحده.
الرياضة كمنصة لتشكيل الوعي
في الأدبيات الفلسفية والاجتماعية، تُعد الرياضة “مسرحًا للقيم”، تنغرس فيه معاني الالتزام، والانضباط، والاحترام، واللعب النظيف (Fair Play)، والتضامن الجماعي. وبينما يمارس اللاعب هذه القيم بدافع “اللعبة”، يتشرّبها داخليًا كإيقاعٍ نفسي وسلوكي. فالملعب — على عكس المسرح — لا يكتفي بتمثيل الأخلاق، بل يتطلب تجسيدها في الزمن الحي، وبحكم الالتزام بالقوانين والتحكم في الغرائز والرغبات.
وبهذا المعنى، فإن الرياضة تصبح حقلًا تربويًا بامتياز، وإنْ كان غير مدرَج ضمن المنهاج التقليدي. ففي دولة تعاني من التدهور التعليمي، ومن شتات مؤسسات التنشئة، تصبح الرياضة أداةً ثقافية بديلة، قادرة على بناء الهوية، وتدريب الإرادة، وإعادة تشكيل الوعي، خصوصًا بين فئات الشباب.
الرياضة والثقافة السياسية: هل للملعب أن يكون فضاءً وطنياً؟
في ظل غياب مشروع ثقافي وطني (قومي)، وانكماش المسرح والمدرج، وتفكك الجماعة الوطنية، تعود الأسئلة الكبرى: من يعيد للوطن (للأمة) انضباطها؟ من يدرب روح الشباب على الإصرار والمثابرة والانضباط؟ من يُكسبهم مهارة الخسارة بشرف والانتصار بتواضع؟
في هذا السياق، تُستخدم الرياضة في تجارب دول كأداة لإعادة إنتاج السردية الوطنية ، كما في اليابان التي جعلت من “كأس الإمبراطور” جزءًا من الهوية الثقافية، أو في ألمانيا ما بعد الح-رب، حيث لعبت كرة القدم دورًا محوريًا في استعادة كرامة “الجماعة المتصدعة”.
أما في السياق السوداني، فالنظر للرياضة لا يزال محدودًا ضمن إطار “المنافسة الترفيهية”، دون إدراك طاقتها الكامنة في إعادة بناء ما تهدّم من نسيج اجتماعي، وما ضاع من مفهوم “الوطن ” وسط شتات الحروب والانقسامات.
الرياضة كمضاد للقلق المجتمعي: الجسد ضدّ الخوف
نعيش في عصر تسوده الضغوط النفسية والاجتماعية، تتكثّف فيه حالات القلق والإرهاق الذهني، وتتعطل فيه أجهزة الانتماء الجماعي. هنا تصبح الرياضة ضرورة حيوية، لا بوصفها تمرينًا عضليًا فقط، بل كبوابة نحو إعادة الاتصال بالجسد، وتحريره من الشدّ العصبي.
لقد فهمت شعوب شرق آسيا هذه العلاقة جيدًا: فاليوغا في الهند، والتأمل البوذي في الصين، وحتى طقوس العبادة التي تتضمن حركات جسدية كالسجود، ليست سوى محاولة لإعادة دمج الجسد بالروح، لتحقيق حالة من السكون الداخلي، والانسجام الوجودي.
ما فعله الفلسطينيون حين نظموا بطولات رياضية داخل المخيمات رغم الحصار، أو ما أبدعه أبناء جنوب أفريقيا حين حولوا ملاعب كرة القدم إلى ساحات وعي ضد الفصل العنصري، أو ما أطلقه نلسون مانديلا حين قال: “الرياضة تملك القدرة على تغيير العالم”، هو الدرس نفسه الذي نحتاجه اليوم: أن الرياضة الشعبية يمكن أن تكون رافعة للكرامة، ومصنعًا للأمل، وفضاءً للوعي.
في السودان، يمكن توطين مثل هذا الفهم عبر برامج رياضية مجتمعية، تعيد الاعتبار للجسد بوصفه وسيلة لإعادة توازن الشخصية، وتحقيق الاستقرار النفسي بعد الصدمات. فالعلاج الرياضي — كما يعرف في علم النفس — لا يقل فعالية عن العلاج المعرفي أو السلوكي، خاصة في بيئة تشهد اضطرابًا حادًا في الوجدان الجماعي.
الملعب كمساحة تربوية بديلة: هل نحن أمام “فصل دراسي مفتوح”؟
هل يمكن أن يصبح الملعب فصلًا دراسيًا مفتوحًا؟ والمدرج فضاءً ثقافيًا بديلاً؟ والفريق نموذجًا مصغرًا للمجتمع؟ هذه الأسئلة ليست محض افتراضات بل تنتمي لما يُعرف بـ”التربية غير النظامية”، التي تعتمد على الوسائط البديلة في بناء القيم.
ففي كل مباراة، يُمارس الشباب دروسًا في القيادة، والانضباط، والعمل الجماعي، وقبول الآخر، والتفاعل تحت الضغط. إنها دروس تتكرّر يوميًا، ولكنها لا تُدرّس، ولا تُنظَّم، ولا تُبنى عليها مشاريع تربوية.
الرياضة الشعبية: تهذيب للذات، وصيرورة للتحرر
ليست الرياضة، في معناها العميق، مجرد تمرين عضلي أو نظام صحي، بل ضربٌ من “التربية البديلة” التي تهذّب الغريزة وتُروّض القوة وتُطوّع الرغبة في سبيل الجماعة. حين قال العرب في أمثالهم: “العقل السليم في الجسم السليم”، لم يكونوا يحيلون على الصحة فقط، بل على التوازن بين الجسد والروح، بين القدرة على التحمّل، والحكمة في التصرف.
لكن ما يُغفل كثيرًا، هو البعد الشعبي–التحرري للرياضة، خصوصًا في المجتمعات التي تتعرض للقهر أو الح-روب أو الاحتلال. فبينما تُنشأ الرياضة الرسمية في معاهد التدريب والأندية الكبرى، تولد الرياضة الشعبية في الأزقة والساحات والأسطح الترابية، وفي هذه الولادة يكمن جوهرها النضالي.
ما العمل؟ نحو مشروع وطني للرياضة كرافعة ثقافية
في ظل هذا الفهم، نحتاج إلى مقاربة جديدة للرياضة في السودان والعالم العربي، بوصفها جزءًا من البنية التحتية الثقافية، وليست ملحقًا ترفيهيًا. ويتطلب هذا:
• تطوير المناهج التربوية لدمج الرياضة كمادة ذات بعد ثقافي-قيمي.
• دعم المبادرات الشبابية الرياضية في الأحياء والمناطق الطرفية.
• استثمار الشخصيات الرياضية الوطنية كرموز أخلاقية وتربوية.
• بناء شراكات بين الأندية والمدارس ومنظمات المجتمع المدني لتأطير النشاط الرياضي.
• إشراك الفتيات في الأنشطة الرياضية بوصفها مسألة تحرر وجداني لا مجرّد مساواة سطحية.
خاتمة: بين العرق والوعي… نحو إنقاذ “الروح الجماعية”
في النهاية، لا يتعلق الأمر بكرة القدم أو ألعاب القوى، بل بما هو أعمق: إنقاذ الوعي الوطني، وإعادة تشكيل الشخصية السودانية في زمن التشظي. فحين يركض شاب في حيٍ فقير خلف كرة، لا يهرب من الواقع، بل يمارس شكلًا من المقاومة، ويحفر بقدمه أخدودًا جديدًا في أرضٍ أنهكها النزاع.
الرياضة — حين تُفهم وتُدار كأداة ثقافية — ليست محض ملعب، بل فضاء لبناء المواطنة. إنها طريقٌ نحو الكرامة… حين يعجز الخطاب السياسي، ويتعثر التعليم، وتنهار المنصة. فالملعب، في لحظة كهذه، قد يكون هو المسرح الأخير لعرض ما تبقى من “الأخلاق”، قبل أن تذهب — وتذهب الأمم معها.
Leave a Reply