توظيف الميثولوجيا الإغريقيّة في الأدب الحداثي

إحسان الله عثمان

الأساطير القديمة غالبًا ما تتمحور مواضيعها حول العهود، التي سبقت نشأة الكون ومراحل نشأته وظهور الآلهة والأبطال، الذين عاشوا في مرحلة ما قبل التاريخ كما تتطرّق إلى النظام المدني للبشرية وتتضمّن مفاهيمًا فيما وراء الزمان ذات طابعٍ تصويري..

رغم أن الأغنية السودانية تستقي مادّتها في الغالب من الذاكرة الشعبية والتجربة العاطفية والتراث المحلي جاءت قصيدة “يا ماريا” للأديب صلاح أحمد إبراهيم تحمل إشارات مباشرة إلى الميثولوجيا الإغريقية فيما يشبه التجسير الجمالي بين عالمين متباعدين في الزمان والمكان عبر تشابيه واستعارات ذات طابع كلاسيكي في شعر الحداثة الغنائي المتأثر بالمدرسة الرمزية والبعد التأمّلي الوجودي والطابع الفلسفي للأسطورة واستيعاب الرموز الكونية والموروث العالمي في محاولة لتجاوز المحلي وتعميق التجربة الجمالية..

الدبلوماسي الأديب والشاعر صلاح أحمد إبراهيم موهبة شعرية فذة ونادرة التفاصيل ويعتبر من تيار الحداثة، مدرسة الغابة والصحراء. يا مريا كلمات في منتدى الجمال قصيدة جميلة لشاعر جميل نثر داخلها أرتالًا من عذوبة الإحساس وصور الكلمات جسدًا وروحًا بتوظيف الميثولوجيا الإغريقية رموزًا غنية بالمعاني المرهفة

ماريا فتاة يونانية ﺍﻟﺘﻘﺎﻫﺎ ﺻﻼﺡ ﻓي ﺻﻮﻓﻴﺎ ﺑﺒﻠﻐﺎﺭﻳﺎ في ﻣﻬﺮﺟﺎﻥ ﺍﻟﺸﺒﺎﺏ ﺍﻻﺷﺘﺮﺍكي ﻓﻰ ﻋﺎﻡ 1958ﻡ ﺣﻴﺚ ﺣﻀﺮﻩ الشاعر ﺻﻼﺡ أﺣﻤﺪ إﺑﺮﺍﻫﻴﻢ ﻭﺍﻟﻘﺎﺹ ﺧﻮﺟﻠﻰ ﺷﻜﺮ ﺍﻟﻠﻪ ﻣﻤﺜﻠﻴﻦ ﻻﺗﺤﺎﺩ ﺍﻟﺸﺒﺎﺏ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍني، ﻭﻛﺎﻧﺖ (ﻣﺮﻳﺎ) ﺍﻟﺠﻤﻴﻠﺔ ﻣﻤﺜﻠﺔ ﻻﺗﺤﺎﺩ ﺍﻟﺸﺒﺎﺏ ﺍﻟﻴﻮﻧﺎني ..
ﻟﻢ ﻳﺮﺗﺒﻂ ﺑﻬﺎ ﺍﻟﺸﺎﻋﺮ ﺍﻟﻔﺬ ﺻﻼﺡ ﻭﻟﻜﻨﻬﺎ ﺗﺮﻛﺖ ﺍﻧﻄﺒﺎﻋًﺎ ﻗﻮﻳًﺎ في ﺩﻭﺍﺧﻠﻪ ﺍﻟﻔﺘﻴﺔ ﻭﻋﺒﺮ ﻋﻨﻪ ﺑﻬﺬﻩ ﺍﻟﺪﺭﺓ القصيدة ﺍﻟﺨﺎﻟﺪﺓ، ﺍلتي ﺗﻨﻢ ﻋﻦ ﺛﻘﺎﻓﺔ ﺻﻼﺡ ﻭإﻟﻤﺎﻣﻪ ﺑﺎلأﺩﺏ والميثولوجيا والأﺳﺎﻃﻴﺮ الإﻏﺮﻳﻘﻴﺔ ﺍﻟﻘﺪﻳﻤﺔ..

بنية القصيدة ومناخها تلاقح جمالي بين الهوية والأسطورة على نمط شعري حداثي غني بالصورة والتخييل والمجاز تتداخل فيه الذات العاشقة والرمز الأنثوي “مريا” مركزًا شعريًا لاستدعاء الأساطير الإغريقية في لغة مشحونة بالعاطفة والشهوة والانبهار الجمالي طبقات من الرموز والتاريخ والأسطورة تمنح النص بعدًا تراجيديًا جماليًا وفلسفيًا..

في إشارة إلى جدل الهوية والانتماء أحد أجمل مقاطع القصيدة تلك، التي يبدأ فيها الشاعر بالتعريف بذاته:

“أنا من إفريقيا صحراؤها الكبرى وخط الاستواء…”

هنا يحدث التماهي بين الذات الإفريقية والجسد الأسطوري تقاطعات الحنين العاطفي والانتماء الحضاري ويتحول الجسد الإفريقي إلى مصدر حرارة واشتهاء وقداسة بدائية تقف في مواجهة آلهة الأولمب “فهلُمي ودعي الآلهةَ الحمقاءَ تغضبْ” في تحدٍ للميثولوجيا الإغريقيّة مطالبًا أن يكون الحب معيارًا، لا قوانين الآلهة…

يامريّا…
ليت لي ازْميل (فدياس) وروحًا عبقرية
وأمامي تل ُ مرمر
لنحت الفتنة الهوجاء في نفس مقاييسك
تمثالًا مُكبر
وجعلت الشعر كالشلال : بعضُُ يلزم الكتف
وبعض يتبعثر
وعلى الأهداب ليلًا لا يُفسر
وعلى الخدين نورًا يتكسر
وعلى الأسنان سُكر
وفمًا كالأسد الجوعان زمجر
يرسل الهمس به لحنًا معطر
وينادى شفة عطشى وأخرى تتحسر
وعلى الصدر نوافير جحيم تتفجر
وحزامًا في مضيقٍ ، كلما قلتُ قصيرُُ هو،
كان الخصر أصغر
يا مريا
ليت لي إزميل (فدياس) وروحًا عبقرية
كنت أبدعتك يا ربة حسنى بيديَّ
يا مريا
ليتني في قمَّةِ (الأولمب) جالس
وحواليَّ العرائيس
وأنا في ذُروة الإلهام بين المُلهماتْ
أحتسي خمرةَ (باخُوس) النقيَّة
فإذا ما سرتْ النّشْوةُ فيَّ
أتداعى ، وأُنادى : يا بنات
نقٍّّروا القيثار في رفقٍ وهاتوا الأغنياتْ
لمريا
يا مريا
ما لعشرينين باتت في سعير تتقلب
ترتدى ثوب عزوف وهي في الخفية ترغب
وبصدرينا (بروميثيوس) في الصخرة مشدودًا يعذب
فبجسم ألف نار وبجسم ألف عقرب
أنتِ يا هيلينُ
يا من عبرت تلقاءها بحر عروقي ألفُ مركبْ
يا عيونًا كالينابيعِ صفاءْ … ونداوة
وشفاهًا كالعناقيدِ امتلاءْ … وحلاوة
وخُدوداً مثل أحلامي ضِياءْ … وجمالًا
وقوامًا يتثنّى كبرياءْ … واخْتيِالًا
ودَمًا ضجَّتْ به كلُّ الشرايينِ اشتهاءْ..يا صبيَّة
تَصْطلي منهُ صباحًا ومساءً … غجريَّة
يا مريّا
أنا من إفريقيا صحرائها الكبرى وخطِّ الاستواءْ
شحنتْني بالحراراتِ الشُموسْ
وشوتني كالقرابينِ على نارِ المجُوسْ
لفحتني فأنا منها كعودِ الأبنوسْ
وأنا منْجمُ كبْريت سريعِ الاشتعالْ
يتلظَّى كلًّما اشتمّ على بُعدٍ : تعالى
يا مريا:
أنا من إفريقيا جوْعانُ كالطِّفلِ الصَّغيرْ
وأنا أهْفو إلى تُفاحة حمراء من يقربها يصبح مذنب
فهلُمي ودعي الآلهةَ الحمقاءَ تغضبْ
وانْبئيها أنها لم تحترم رغبة نفسٍ بشرية
أيُّ فردوسٍ بغيرِ الحبِّ كالصَّحراءِ مُجدبْ
يا مريا
وغداً تنفخُ في أشرِعتي أنفاسُ فُرْقة
و أنا أزدادُ نأيًا مثْل (يوليس) وفي الأعماق حرقة
رُبما لا نلتقي ثانيةً
يا مريا
فتعالى وقّعي اسمك بالنار هُنا في شفتي
ووداعًا يا مريا

هوامش:
فيدياس : مثّال إغريقي بارع كانت تماثيله موضوعة في معبد الأكروبول أكبر معابد الإغريق

الأوليمبي : جبل تسكنه الآلهة عند الإغريق

باخوس : إله الخمر

بروميثيوس : بطل خرافي اختطف الشعلة المقدسة وهي النار أو هي الحكمة وأهداها للبشر، فغضب عليه الأرباب . شده على صخرة يقال أنها في جبال القوقاز وتعرض للعذاب حتى أنقذه هرقل

هيلين :جميلة جميلات الإغريق اختطفها باريس أمير طروادة إلى بلده طروادة فسار إليه الإغريق في أسطول هائل في الحرب، التي انتهت بخراب طروادة

يوليس : ملك إناكا وبطل من أبطال الحروب الطروادية، في عودته أغضب إله البحر فحكم عليه بالضياع وتيهه في البحر، وقد استمر تائهًا لمدة عشر سنوات بينما كانت زوجته بنيلوب على مغزلها تنتظره بصبر .
Ihsanullah Osman✍️
Abu Dhabi, May 2025

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.