
بقلم: محمود الشين
التقيت مبكرًا في قهوة دقوش بصديقي الشاعر الزبير عبدالحق وقد أمضى أيامًا مع بعض أقاربه في حي السينما، وبقيت لوحدي في الكوخ مع عصفورتي الصغيرة، التي يبدو أنها قررت المغادرة بعد معركة ذات الحجارة، حيث فقدنا زرقان الوفي.
افترقنا على أمل اللقاء مساءً في قهوة حسن صابر إلى الشرق من سينما نيالا.. سبقته إلى هناك – جاء بعد حين وبيده هذا النص واسمه (ياني الشمس) – يقول مطلعه:
ياني الشمس
يا سمحتي
ويا قمحتي
ريشة القلم
طمست معالم لوحتي….
قلت له (مالك حارقنا ونحن في ليلة قمريةرائعة) رد علىٌ بسؤال: (مش كده؟ والله كلامك صح). واضح أنه فاقد للتركيز بسبب السهر المتواصل. المهم اقترحت عليه بهذه المناسبة أن نمارس هوايتنا في التمشي على رمال الوادي، فوافق على طول، وانطلقنا عبر شارع تكتيك بقلب حي الوادي في وقت متأخر من الليل وبدأ الحي العريق هادئًا كطبيعة أهله.
كنا نسمع أصوات صبيان الأمبررو من الجنسين وهم يتسامرون في واحدة على ما يبدو من أجمل لياليهم ويرددون أهازيج منلوجيه (هيري.. هيري) وتعني بلغة أهلنا الأمبررو (ريدي ريدي) وقد سدروا عميقًا في غرامياتهم ولا عليهم بفضولنا الزائد.
لقد تسيدوا الجزء الجنوبي من ضفة وادي برلي تجاه حي كرري بينما جئنا نحن من جهة الشمال (حي الوادي) وتوغلنا للنصف الآخر من مجرى برلي حتى أصبحنا على مقربة منهم.. أعرف أن الزبير سيفعلها – رأيته يتحسس جيبه – مؤكد أنه بصدد إشعال سيجارة، وهي طبيعة المدخنين حين يشهدوا هكذا مواقف.
قلت له مارس حريتك، لكن تتحمل مسؤوليتك إن أصبحت هدفًا لسهامهم القاتلة، التي لا تفارقهم أبداً.. همهم بعبارة لم أفهمها لكنه عدل عن فكرته. اقترحت عليه بديلًا قارورة من الماء.. أعرف أن نقطة ضعفه هي الماء.. ابتسم وأخذها بسرعة.. الزبير كائن مائي حتى النهاية، إياك أن تصطحبه في الصحراء، سيعرض مخزون القافلة من الماء للخطر.
ياخ خليني أسألك – يقول الزبير: (الأمبررو ديل ما كانوا في موسيه الجابهم هنا شنو)؟ قلت له (هم كائنات مائية مثلك، لا يسكنوا إلا بالقرب من الماء) وضحكنا.. مما لفت انتباه الصبيان، فصمتوا لبرهة وواصلوا (هيري هيري).
لا عليهم – من يحكم البلاد، ما هو وضع الأمن والاقتصاد، كيف حال التعليم، وما الموقف الصحي؟ كم بلغ سعر صرف الدولار اليوم مقابل عملتنا الوطنية (الجنيه)؟.. لم يشغلوا بالهم لا بهذا ولا ذاك. لأن همهم على غيرهم، وما يقومون به هو جزء من تنشئتهم الاجتماعية.
ومن عاداتهم وتقاليدهم في الزواج أن تترك الفتاة مع الذي تختاره من الصبيان لعدد من الشهور أو السنوات ومن ثم يأتي الزواج في إشارة إلى أن دماءهم وأرواحهم قد تآلفت وامتزجت، وإذا لم تنجب الفتاة بعد تلك الفترة فليس هناك (زواجًا) . ومعلوم أن الأمبررو يدفعون الأبقار مهرًا للزوجة مثل أهلنا الدينكا في دولة جنوب السودان، ويحبذون المرأة الولود الودود.
يشير صديقنا الراحل الأستاذ آدم عبدالكريم دقاش، الباحث في مجال الأدب الشعبي بدارفور، إلى أن (الأمبررو اسم يطلق على نوع من الضأن اشتهرت بتربيته هذه المجموعة “السنكرا” ولكنه صار اسمًا لها فيما بعد).. الأمبررو أو السنكرا هم في الواقع مجموعات راحلة متنقلة على مدى العام ما بين الكاميرون والهضبة الإثيوبية مرورًا بتشاد، إفريقيا الوسطى، جنوب السودان، كينيا والسودان.
وفي السودان ينتشرون في المناطق الجنوبية الغربية لإقليم دارفور، جبال النوبة، بحر الغزال، النيلين الأبيض والأزرق، ويرعون ماشيتهم المشهورة بقرونها الكبيرة، وهي أبقار ذات أحجام ضخمة ولكنها قليلة العائد الاقتصادي.
تأسرني هذه الفئة من مكونات مدينة نيالا، وهم بتلك السليقية والجمال الباذخ.. الأمبررو من الشعوب المرحة والطروبة بامتياز. كلما وجدت ابنهم، صديقنا (بعشوم) وسألته قطعة أرض بمنطقة موسيه يأتي رده: (يا زول الأرض مقابل السلام)..
لننظر كيف نوقع هذه المعاهدة في قادمات الأيام.
Leave a Reply