الأقمار الشائكة

أحمد الحاج
قاص من العراق

(1-3)
استيقظ من نومته المفضلة قبل الموعد بدقائق ليست بالقليلة، فقد أراد أن يعيد تصفيف شعره القصير، ثم يحضر فنجانًا من القهوة يساعده على تنبيه ذاكرته المشوشة بين الرقاد واليقظة، كما يعطيه جرعة إضافية لمقاومة نعاس ما تبقى من الليل، أحضر اسطوانته وأدار قرص التشغيل كي ينعم بشيء من رباطة الجأش والطمأنينة وهو يتعامل مع خلاصة تجربة وليدة خبرته المتراصة في التعامل مع الشبكات والبرامج الشفافة.
الليل يرخي سدوله على المكان ويفرض سكونه المفتعل على الأزقة والحارات، يحاكيه شعاع ضئيل من ضوء القمر الماثل للأفول إلى مثواه الأخير، الأشجار تمتص جزءًا من هذا الشعاع، وتعكس ظلها في الجهة المقابلة، حتى تبدو للرائي وكأنها أشباح تمد بأذرعها في كل اتجاه، لتنال من الأنفس المتوجسة خوفًا ورهبةً من كل ما يقطع السكون حتى ولو كانت تمسدها أصابع الأثير النحيلة.
– قدر في كف طائر.
– المغامرة شيء ممتع.
– وإن كنتَ الخاسر؟
– الرابح!
كان عليه أن يستعد للحظة الحاسمة، دقائق وتحين الفرصة التاريخية كما تنذر بحلولها دقات الساعة النابضة على الجدار، أيام وأسابيع مضت ملؤها التعب والإرهاق بين التخطيط من جهة، ونصب الشباك من جهة ثانية، الصورة يجب أن تخرج بالطريقة كما يرجوها ولو بأقل تقدير. كان مستعدًا للتضحية بكل شيء، المال والرجال والنفس، فقط أن تقول كلمتها المنتظرة على مفترق الطريق. لم يكن يهتم كثيرًا بعبارة كان قد أفضى بها صديقه، “إنك تحمّل الموضوع أهمية أكبر من طاقته”. الوقت قد انتهى، فالشاشة بدأت تعطيه إشارة تلوح في شريط المهام معلنةً وصول الرسالة المنتظرة.
– سنحتفل الليلة!
– بل غدًا.
– ألسْتَ واثقًا من أجلك ؟
– دع الفرحة تتضاعف.
أسند ظهره إلى الكرسي الدوار وحمل قدميه على الطاولة، وراح في قراءة سطور الرسالة وتحليل شفرتها كلمةً، كلمةً، وحرفًا، حرفًا. كانت قد جهدت في انتقاء الألفاظ الكرنفالية والعبارات الرقيقة كي تصل معلومتها بشيء من راحة النفس والطمأنينة، التي تتمتع هي أصلًا بها، شعر بأن كلماتها كانت طويلة، طويلة جدًا حتى أن وقته لن يكفي لتصفحها حتى ولو أضاف إليه عشرة أوقات أخرى.
كان الدرس الأول بالنسبة لها قاسيًا ومتعبًا، فقد كانت طيلة المحاضرة تتكلم في ارتباك وتلعثم لم تعهدهما من قبل، لقد لاحظت أنه يجيل النظر كثيرًا برونقها ويتمعن كلماتها أكثر من غيره، وكلما حاولت الإنفلات من مصائد اللحظة غير المسبوقة، تحس أن ذراع أخطبوط تشدها إلى موقعه بقوة. لكن عليها أن تكمل مسيرتها، التي بدأت حتى ولو كان الثمن باهظًا.
– برنامجي سيكتمل قريبًا.
– الماء قد يغلب الغطاس.
– إن لم يسبق غوره.
-……..!
كانت أجهزة الحاسوب موزعة على جهتين بأبعاد قياسية مصممة لهذا الغرض، تقودها حزمة من الأسلاك تؤدي بها عبر السطح إلى المجسات لتطأ بإشارتها الأقمار الصناعية في الفضاء. المتدربون يتوزعون بشكل عشوائي، دائمًا كان يفضل الجلوس في الأول، وعند سؤاله عن السبب يقول بأنه يؤمن بالمثل القائل: “عليك الأمور بأولها”، ولا يحبذ تغيير الوجوه. أما هي فقد كانت تفضل إلقاء محاضرتها من خلف المنصة، التي تفصلها عنهم أولًا، ثم تبدأ في التجوال بينهم واحدًا تلو الآخر.
عندما وضع كلماتها بين يديه، أخبره بأن عليه التحلي بالصبر ورباطة الجأش فربما تلّقى بعض الصدمات في المقدمة، ولكن “العبرة بالخواتيم”. سألته مرة إن كان هذا عنوان البريد الإلكتروني حقيقيًا أم افتراضيًا، فكانت إجابته إنه لا يحبذ الحلول الإفتراضية ولديه الرغبة في إعداد برنامجه بيده. نبرتها كانت تنم عن شيء من الارتياح بادية على ملامح خيالها المتعب وظلها المتجمع عبر الشاشة، فراح يدقق النظر فيها بتعمق، وشيء من الطمأنينة.
كانت تقف خلفه بقامتها الفارهة كملكة، والحاشية تحيط بها من كل جانب، أما الجمهور فقد كان يمر من أمامها مقدمًا فروض الطاعة والولاء، معبدًا للبراءة والحياء والنظرات البريئة، التي يحلم بامتلاكها، والتفاعل معها مدى الأيام. عندما تنشئ البرنامج تشعر أنه يستقبله بلهفة، ويتعامل معه بذكاء مفرط وشيء من العناد، لذلك فضلت الاستمرار معه حتى نهاية المطاف، رغم ما كان يعتريها من ضعف موقفها الآني تجاهه. كانت تشعر أن كلماتها من على الشاشة تفرض عليها نفسه – كليًا – بطريقة لم تألفها طيلة خبرتها الطويلة مع الشبكات والعقول الإلكترونية.
“لو أني اقنع يومًا بمشورة تريح أعصابي، وتقودني إلى: إما الصعود لنجمة المشتري، أو الهبوط في قعر الهاوية”.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.