من الفكرة إلى الدولة لماذا فشل الإسلام السياسي في بناء مشروع وطني ديمقراطي؟

◦ منذ بروز حركات الإسلام السياسي كفاعل محوري في المجال العام العربي – خصوصاً عقب انتفاضات “الربيع العربي” – تعاظمت الوعود ببناء نموذج بديل يجمع بين المرجعية الإسلامية والممارسة الديمقراطية، في مواجهة إرث الأنظمة التسلطية. غير أن انتقال هذه الحركات من الحيز الدعوي إلى المجال السياسي كشف عن فجوة مفاهيمية وسلوكية، بل عن عجز بنيوي في الارتقاء من “الشعار” إلى “المشروع”، ومن “الخطاب” إلى “الدولة”.

◦ ولئن بدا هذا الإخفاق في بعض الأحيان نتاجاً لضغوط خارجية أو تحالفات مناهضة، فإن التمحيص الفكري يُظهر أنه بالأحرى انعكاس لأزمات بنيوية في الفكر والممارسة والبنية التنظيمية لهذه الحركات. يستعرض هذا المقال جذور هذا الفشل ضمن أربعة مستويات: التصور النظري للدولة، إشكالية العلاقة بين الدين والديمقراطية، المأزق المؤسسي في التجربة، والتحديات المستقبلية لتجاوز هذا المأزق.

◉ أولاً: من “الهوية” إلى “المشروع” – انبثاق نظري مأزوم
◦ نشأت حركات الإسلام السياسي – كجماعة الإخوان المسلمين (1928)، أو حزب التحرير، أو جماعة أنصار الشريعة – كردّ فعل على انهيار الخلافة العثمانية، وتحت وقع الصدمة الحضارية أمام المدّ الاستعماري.

◦ رغم تنوّع المرجعيات، التقت هذه الحركات على ركيزتين:

1. اعتبار الإسلام نظاماً شاملاً يشمل السياسة والاقتصاد والاجتماع.

2. استعادة الدولة الإسلامية كإطار لتجسيد الهوية.

 

◦ غير أن هذه الشعارات الكبرى – مثل “الإسلام هو الحل” – ظلت بعيدة عن التحديد المؤسسي، مما جعلها عرضة لإعادة إنتاج الاستبداد، كما حذّر عبد الله العروي.

◉ ثانياً: التوترات المفاهيمية – الشريعة والديمقراطية
◦ واجه الفكر السياسي الإسلامي إشكالية المزج بين السيادة الإلهية والسيادة الشعبية.

◦ تعتبر معظم الأطروحات الإسلامية الشريعة فوق دستورية، ما يُفرغ الديمقراطية من جوهرها التعددي، ويجعل التعددية مجرد تسامح لا اعتراف.

◦ لاحظ نصر حامد أبو زيد أن التفسير الأحادي للنص الديني يصادر الاجتهاد ويُقصي المختلف، محولاً الدين إلى أداة سلطة.

◉ ثالثاً: الاستعلاء الأخلاقي وتسييس المقدّس
◦ تصر حركات الإسلام السياسي على احتكار تمثيل “الحق”، ووصم الخصوم السياسيين بعدم الإيمان أو الخيانة.

◦ يتحوّل الخلاف السياسي إلى صراع أخلاقي مطلق، مما يمنع بناء التوافق ويقوّض أسس التعددية والمواطنة.

◦ حذر الجابري من “تديين السياسة”، لأن ذلك يحوّل الدولة إلى أداة وصاية لا إدارة.

◉ رابعاً: من صناديق الاقتراع إلى مأزق السلطة
◦ تجارب الإسلاميين في الحكم – كالسودان ومصر وتونس – كشفت هشاشة البناء السياسي لهذه الحركات.

◦ شملت أبرز مظاهر الفشل:

تقديم الولاء التنظيمي على الكفاءة.

أسلمة المؤسسات بدل إصلاحها.

إقصاء الآخرين بدل الشراكة.

◦ وقد أدى ذلك إلى نتائج كارثية كالحروب والانقلابات والانقسامات الداخلية.

◉ خامساً: أزمة الدولة الوطنية – “الأمة” مقابل “الوطن”
◦ تعاني الحركات الإسلامية من التناقض بين مفهوم الأمة الإسلامية والدولة القُطرية الحديثة.

◦ يؤدي هذا التناقض إلى إضعاف الالتزام بالسيادة الوطنية، وإقصاء التنوع الداخلي، والتعامل مع المواطن وفق معايير دينية لا مدنية.

◦ نبه طارق البشري إلى أن الدولة تُبنى على عقد اجتماعي يتسع للجميع، لا على عقيدة واحدة.

◉ سادساً: التحدي المستقبلي – هل يمكن الإصلاح؟
◦ لا يعني الفشل نهاية الإسلام السياسي، بل يمكن لبعض مكوناته أن تنخرط في مراجعة معرفية جدية.

◦ من شروط الإصلاح الجاد:

إعادة تعريف الشريعة كمنظومة قيم.

فصل الدعوي عن السياسي.

القبول بالمواطنة كأساس جامع.

الانخراط في عقد اجتماعي وطني.

◉ أي مستقبل للفكر السياسي الإسلامي؟
◦ فشل الإسلام السياسي في بناء مشروع وطني ديمقراطي نابع من تناقضات لم تُحل منذ التأسيس.

◦ من دون مراجعة عميقة تتجاوز الأدبيات الكلاسيكية، سيبقى أسير الحنين للخلافة والمجتمع الطهوري.

◦ يبقى السؤال: هل يستطيع أن يتحول إلى فكر مدني–أخلاقي يؤمن بالديمقراطية كقيمة، لا مجرد أداة؟

 

المراجع:

عبد الله العروي، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، 1981.

نصر حامد أبو زيد، نقد الخطاب الديني، سينا للنشر، 1992.

محمد عابد الجابري، الدولة والدين، مركز دراسات الوحدة العربية، 1996.

محمود إسماعيل، الفكر السياسي في الإسلام، الهيئة العامة للكتاب، 1990.

طارق البشري، الجماعة الوطنية، دار الشروق، 1999.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.