حرية، سلام، وعدالة: قراءة فلسفية في جوهر الشعار الثوري السوداني

بقلم: د.أحمد الليثي

مقدمة
في خضم ثورة ديسمبر السودانية، ووسط الزخم الشعبي الهادر، الذي اجتاح الشوارع والساحات، برز شعار ثلاثي الكلمات كمرآة صافية لطموح جمعي: “حرية، سلام، وعدالة”. لم يكن هذا الشعار مجرّد صرخة احتجاجية، بل حمل في طياته شحنة فلسفية عميقة، تتجاوز الإطار السياسي لتطرح أسئلة عن الوجود، والكرامة، والعدل. كانت تلك الكلمات الثلاث بمثابة بلاغٍ وجودي صادرٍ من قلب الجماهير، تعلن فيه رفضها لعالم قديم، وتوقها إلى ولادة عالم جديد.
هذا النص هو محاولة لاستنطاق هذا الشعار من خلال رؤية فلسفية، والبحث في المعاني الكامنة فيه، انطلاقًا من أبعاد وجودية، أخلاقية، وسياسية.
1. الحرية: من الوجود إلى الفعل
الحرية هنا ليست مجرد تحرّر من القمع السياسي، بل هي استعادة لجذر الإنسان ككائن حرّ في جوهره. إنها، وفقًا لسارتر، “العبء الوجودي للحرية”، حيث يُصبح الإنسان مسؤولًا عن اختياراته في غياب أي يقين خارجي. فالحرية ليست اختيارًا من بين بدائل، بل هي نسيج الكينونة ذاتها؛ والإنسان “محكوم عليه بالحرية” لأن وجوده يسبق ماهيته.
انطلاقًا من هذا الفهم، فإن المطالبة بالحرية خلال ثورة ديسمبر لم تكن فقط رفضًا للديكتاتورية، بل كانت إعلانًا لحق الإنسان السوداني في أن يصوغ وجوده بنفسه، وأن يستعيد إمكانية الفعل. أما في المنظور الهيغلي، فالحرية هي تحقق الروح في التاريخ، والثورة لحظة من لحظات انبثاق هذه الروح، حين تنزع عنها أغشية القهر وتبحث عن ذاتها كفاعل تاريخي.
هي إذن صرخة ضد القدرية السياسية والاجتماعية، وضد كل من يصادر الفرد أو الجماعة، إعلان بأن الإنسان السوداني ليس موضوعًا للتاريخ، بل فاعلٌ فيه.
2. السلام: أخلاق العلاقة والاعتراف
السلام في هذا الشعار لا يُفهم كغياب للحرب فحسب، بل كتحقّق لعلاقة أخلاقية تتأسس على الاعتراف المتبادل. وفقًا لإيمانويل ليفيناس، العلاقة مع الآخر هي أصل الأخلاق، والسلام في هذا السياق هو حالة من التصالح الوجودي مع الآخر، حيث تنبني العلاقة على المسؤولية لا الهيمنة.
في هذا المنظور، السلام يتطلب تفكيك البنية العدوانية للدولة، وبناء فضاء سياسي لا يُقصي أحدًا بسبب العِرق أو الدين أو الجغرافيا. إنه سلام مضاد للبنيوية الإقصائية، التي وسمت تاريخ الدولة السودانية، وسلام يؤسس لروابط إنسانية قائمة على العدالة، لا على الامتياز.
إنه سلامٌ يُنزِل الآخر من مقام العدو إلى مقام الشريك في بناء المصير، ويفتح المجال لإعادة تعريف الدولة بوصفها أفقًا للعيش المشترك لا أداةً للقمع.
3. العدالة: من الانتقال إلى التأسيس
العدالة، آخر مفردة في الشعار، تمثل الذروة الأخلاقية للمشروع الثوري. في فلسفة جون رولز، تقوم العدالة على مبدأين: حرية متساوية للجميع، وتوزيع عادل للفرص يراعي الفئات الأضعف. هذا التصور يجد صداه في السياق السوداني، حيث تتخذ العدالة بُعدين مترابطين:
• عدالة انتقالية تعترف بالجرائم، وتؤسس لعدم الإفلات من العقاب، وتُعالج ذاكرة الألم الجماعي.
• عدالة بنيوية تُعيد توزيع السلطة والثروة، وتكسر مركزية الخرطوم، وتبني دولة تشاركية لا مركزية.
ليست العدالة هنا مجرد مطلب قانوني، بل مشروع أخلاقي يعيد تعريف العلاقة بين الإنسان والدولة، ويؤسس لعقد اجتماعي جديد يكون فيه الجميع شركاء لا ضحايا، مواطنين لا رعايا.
خاتمة
“حرية، سلام، وعدالة” ليس شعارًا تعبويًا أو برنامجًا سياسيًا فحسب، بل هو صياغة أولية لعقد وجودي جديد بين السودانيين. تتأسس فيه الدولة لا كسلطة مهيمنة، بل كفضاء للاعتراف، والتعدد، والعدالة.
بهذا المعنى، فإن ثورة ديسمبر لم تكن مجرد لحظة سياسية، بل لحظة خلق وجودي، لحظة أعلن فيها الإنسان السوداني عن ذاته ككائن حر، أخلاقي، ومسؤول عن مصيره. ولعل هذا ما يمنح الشعار قوّته الخالدة: كونه تعبيرًا مكثّفًا عن أمل إنساني في وجه العبث، ومشروعًا مفتوحًا لما يمكن أن تكون عليه الدولة السودانية القادمة.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.