تحرير الدين من السياسة، والدولة من اللاهوت(1)

بقلم: طارق عبداللطيف ابوعكرمة

في عالمٍ تتشابك فيه الهويات بالسلطات، وتختلط فيه القيم الدينية بالمصالح السياسية، تُطرح مسألة العلاقة بين الدين والدولة ليس فقط كإشكالية سياسية أو دستورية، بل كسؤال وجودي عن طبيعة المجال العام وحدود الحرية والحق والتعدد. لقد شهدت المجتمعات العربية، ومن بينها السودان، تصارعاً عنيفاً بين نزعتين: الأولى ترى في الدين – وتحديداً الإسلام – أساساً للهوية الجماعية ومصدرًا للتشريع العام، والثانية تنادي بفصل الدين عن السلطة السياسية، بوصفه شرطاً لازماً للديمقراطية والمواطنة المتساوية.
لكن ما أفرزته تجربة الإسلام السياسي منذ صعوده في سبعينيات القرن الماضي – وذروته مع ما بعد الثورات العربية – هو مأزقٌ مركّب: فقد فشل الإسلاميون في إدارة الدولة، لا لأنهم متدينون، بل لأنهم حولوا التديّن إلى مشروع سلطوي مغلق، واحتكروا الحق في النطق باسم الدين، وصاغوا المجال العام وفق معادلة تقوم على الهيمنة الرمزية والإقصاء القيمي.

التديّن، كما هو في جوهره، حالة شخصية–روحية تنبع من قناعة فردية أو مجتمعية بالتعالي عن اليومي، وبالسعي نحو المطلق الأخلاقي، وقد شكّل – تاريخياً – طاقة تحرر ومقاومة، لا أداة ضبط وقمع. لكن حين تم تحويله إلى مشروع سياسي، أُفرغ من روحه، وتحول إلى منظومة شعارات تبريرية، تستمد شرعيتها لا من حاجات الواقع، بل من تأويلات انتقائية للنصوص، ومن دعوى “التمثيل الإلهي” في الأرض. هكذا، أصبح المجال العام في كثير من الدول محكوماً لا بمبدأ المساواة، بل بمبدأ “الحاكمية”، لا بقوة القانون، بل بسلطة التأويل الديني، ولا بحرية الضمير، بل بعقيدة الفرقة الناجية.

إعادة تعريف المجال العام، إذن، ليست معركة ضد الدين، ولا حتى ضد التديّن، بل ضد الاستحواذ الرمزي على الإيمان. فالإسلام، كما عاشه الناس عبر قرون، لم يكن مشروع دولة، بل مشروع حياة. وفضاؤه لم يكن حكراً على سلطة الفقهاء، بل كان مجالاً للتعدد المذهبي، والاجتهاد، والاختلاف. ولعلّ واحدة من كبرى مغالطات الإسلام السياسي أنه اختزل هذا الثراء الهائل في بُعد واحد: الدولة، وتحول بذلك من تيار إصلاحي إلى جهاز أيديولوجي مهمته فرض نموذج محدد للتدين، وتجريم ما سواه.

إننا بحاجة إلى أن نحرّر الدين من السياسة، كما نحرر الدولة من اللاهوت. لا لكي نُقصي الدين عن المجال العام، بل لكي نمنحه حريته – وحرّيتنا – في أن يكون جزءاً من الضمير الجمعي، لا جزءاً من ماكينة الحكم. فالدولة الحديثة، كما صاغها هابرماس، لا تطلب من مواطنيها أن يخلعوا إيمانهم حين يدخلون المجال العام، بل أن يترجموه إلى لغة عامة، مفهومة للجميع، وقابلة للنقاش والاختلاف. أي أن المواطن المؤمن يحق له أن يستلهم من دينه، لكن لا يفرضه على غيره باسم “الشرعية الدينية”.

والأخطر في مشروع الإسلام السياسي، أنه لا يكتفي بتقنين الدين، بل يُعيد هندسته وفق منطق الدولة. فيُختزل الإسلام إلى “شريعة”، وتُختزل الشريعة إلى حدود وعقوبات، وتُختزل العقوبات إلى أدوات ردع ضد الخصم السياسي. وبهذا، يتحول الدين من مصدر قيمي مشترك إلى أداة تمايز واستبعاد، ويصير “التقوى” معياراً للولاء، و”الردة” ذريعة للإقصاء، و”البيعة” بديلاً عن العقد الاجتماعي.

في السودان، كما في غيره، دفع المواطن ثمناً باهظاً لهذا الارتباك بين ما هو روحي وما هو سياسي. فقد اختطف الإسلاميون الدولة لعقود باسم “التمكين”، فمزقوا المجتمع، واحتكروا المال العام، وعسكَروا الإيمان، حتى لم يبق من “الدولة الإسلامية” سوى طغيان حزبي أفرغ الدين من رحمته، والعدالة من معناها.

لذا، لا يكفي أن نُسقط الإسلاميين من الحكم، بل علينا أن نسقط “منطقهم” أيضاً: أن نعيد المجال العام إلى أصله، كفضاء مدني تُدار فيه الاختلافات بلغة القانون لا العقيدة، وبآلية التمثيل لا الإيمان، وبمرجعية المواطن لا الفرقة. هذا لا يعني تنحية الدين عن الحياة، بل احترامه بوصفه تجربة فردية أو جماعية، لا مشروع سلطة. فكلما أصبح الدين أقرب إلى الدولة، ابتعد عن الناس، وكلما اقترب من السلطة، تلوّث بلغة الهيمنة.

والسودان، بتعدديته الثقافية والدينية، مؤهل ليكون مختبراً لنموذج مدني جديد، يُعيد تعريف المجال العام بوصفه مساحة مشاركة، لا طاعة؛ نقاش، لا فتوى؛ وعقد اجتماعي، لا نص جامد. فإذا كانت الثورات قد أسقطت الأصنام السياسية، فإن المهمّة الآن هي إسقاط أصنام الفهم الواحد للدين، وتفكيك احتكار الإيمان.
إن إعادة بناء المجال العام بعيداً عن وصاية الإسلام السياسي هي مهمة فكرية وأخلاقية قبل أن تكون سياسية. إنها دعوة لتحرير الإيمان من جمود الفقه السلطوي، ولتحرير الدولة من وهم الخلافة، ولتحرير الإنسان من القبول الطوعي بالاستتباع. وحدها هذه المسافة – الفاصلة والواصلة بين التديّن والدولة – كفيلة بإعادة المعنى للسياسة، وللإيمان، وللإنسان.

خاتمة:

ليس الخطر في أن يتدين الناس، بل في أن تتحول الدولة إلى راعٍ رسمي للتدين، والحاكم إلى مؤتمن على خلاص الأرواح. حين يلتبس الإيمان بالسلطة، تُختزل الروح في نص، والنص في سيف، وتُختزل السياسة في طاعة لا نقد فيها، ولا اختيار. إن إعادة تعريف المجال العام ليست نزعاً للدين من المجتمع، بل نزعٌ للوصاية من الدين؛ ليست صراعاً بين العلمانية والإيمان، بل مقاومة لهندسة الروح وفق مقاييس الأيديولوجيا.
إننا بحاجة إلى أن نُعيد بناء وطن يُتاح فيه للمتدين أن يكون جزءاً من المجال العام، لا سيده، وللمواطن أن يَعتنق ما شاء، أو لا يعتنق، دون خوف أو ازدراء. وحده هذا الفضاء المتسع بين الدولة والدين هو ما يُعيد للسياسة معناها، وللدين حرمته، وللإنسان حريته.
ويبقى السؤال الجوهري: هل نملك الشجاعة الأخلاقية والفكرية لنفصل بين “من يؤمن” و”من يحكم”، بين “ما هو مقدس” و”ما هو مشترك”، ونُعيد تأسيس المجال العام لا على صوت العقيدة، بل على نداء العدالة؟

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.