
أحمد محمود أحمد
خْلقت طينة الأسة وغشتها نار وجد فأصبحت صلصالا
ثم صاح القضاء كوني
فكانت طينة البؤس شاعراً مثالا
يتغنى مع الريح إذا غنت فيشجي خميلة والتلالا
صاغ من كل ربوة منبراً يسكب في سمعه الشجون الطوالا
كالعود ينفح العطر للناس ويغني تحرقا و اشتعالا
الأبيات السابقة للشاعر السوداني الفذ إدريس جماع وهو يؤسس لمفهوم عميق يرتبط بحساسية الشاعر أو الفنان تجاه الواقع الذي يعيش فيه.. و هذا المفهوم الشاعري يقود إلى سؤال يتصل بماهية الفنان و ما هو دوره في الحياة والمجتمع الذي يعيش فيه؟ ويرتبط هذا السؤال أيضاً بسؤال آخر وهو: ما الذي يجعل الفنان أو الفنانة أن يتحول من صانع لمعنى الحياة ورسول إلى السلام ليكون جزءًا من محرقة الموت وفي حرب يقودها العقل الديني في السودان والذي يتناقض مشروعه مع الفن ومشروعيته؟ للإجابة على هذه الأسئلة فيمكن أن نؤسس لمنظور تاريخي ارتبط بصعود الإسلاميين للسلطة في عام 1989 حيث وعبر هذا الصعود فإن معنى الفن قد تغير لأن طبيعة هذا العقل الزاحف من وراء التاريخ لا يدرك دلالة الفن و مراميه، ولهذا فقد بدأ هذا العقل أول الأمر بمحاربة الفن والفنانين تحت دائرة التحريم، وعندما عجز عن ذلك خلق مجالاً يمكن أن نطلق عليه مجال منبر الدم أو فن على وقع البارود، حيث ربط الفن بمفهوم الجهاد في جنوب السودان، وبرزت عبر تلك المرحلة الأناشيد التي تمجد القتل وسفك الدماء، هذا من جهة، أما ومن جهة أخرى، فإن صعود الإسلاميين للسلطة في السودان قد أفرغ الحياة من مضامينها الاقتصادية والاجتماعية وتمظهر واقع الناس ومنذ بداية التسعينيات في السودان بمظاهر سطحية وفقاً لنمط الإنتاج السائد آنذاك والمرتبط بالرأسمالية الطفيلية وقيم السوق… وهذا النمط لا تتأسس عليه قيم جمالية أصيلة، إنما تتسطح من خلاله جميع الفنون، و بدلاً من أن يكون الفنان إنساناً مبدعاً مجترحا مساحات جمالية تنشد السمو، يتحول هذا الفنان وضمن قيم السوق السائدة ليكون مصدراً لفن لايخاطب الوجدان، إنما يتماهى مع مفهوم التسليع والمرتبط بقيم السوق حيث يبحث الفنان والمغني تحديداً عن الكم لا الكيف من أجل الانتشار، والمرتبط هنا بالطلب في هذا السوق العريض والمجال الوحيد الذي يجد فيه الفنان/ لمغني نفسه هو بيوت الأفراح، وهذه الأمكنة تتطلب غناء من نوع خاص وبدلاً من أن يكون هذا الفنان قائداً للمجتمع يخضع الفنان أو الفنانة للسائد الذي أفرزته قيم الرأسمالية الطفيلية مقابل جماهير تائهة تبحث عن التسلية نتيجة لضغوط الحياة وتذهب مع النمط القشري والمنتج عبر نمط عقلية الطبقة المسيطرة والتي تؤسس للشعارات بديلاً عن الجوهر… و لهذا تسطح الفنان وما ظاهرة (القونات ) أي المغنيات اللاتي ظهرن في حقبة حكم الإسلاميين إلا انعكاساً واقعياً لطبيعة المشروع الذي أنتج هذه الظاهرة، والتي في الغالب لا تقدم فنا هادفا إذ يدور أغلبه في دائرة الشتم ( والمغارز) ولايحتاج للتقعيد والتجويد مع الاعتراف أن (القونات) يعتبرن مظهراً مهماً في تحدي المشروع الحضاري الذي طرحته الحركة الإسلامية ومنذ البداية، وتفكيك أطروحته التحريمية تجاه الغناء تحديداً.. و لهذا يمكن القول ان عصر الإسلاميين قد أسس لفن لايمتلك المساءلة و لاتتحدد من خلاله شروط الإبداع، وقد فقد بعض الفنانين عيره وعيهم بذاتهم وبقضايا مجتمعهم الذي يعيشون فيه، و لهذا وبمجرد أن بدأت الحرب في السودان ودخلت الحركة الإسلامية هذه الحرب بمشروعها الجديد، وهي الحرب التي أطلقت عليها حرب الكرامة على نمط المشروع الحضاري المطروح عبر التسعينيات، فقد انحازت مجموعة من االمغنيات والمغنيين لصف الحركة الإسلامية وجيشها وبرزوا في ساحة الحرب، وهنا يلتقي النمط الذي تم التأسيس له من قبل الحركة الإسلامية أثناء الحكم مرة أخرى ضمن مشروع آخر يمكن أن نطلق عليه منبر الدم الجديد وهو منبر قد تم تشكيله عبر الشعار من أجل إيهام الآخرين بعدالة القضية، ولأن بعض الفنانين والفنانات ليست لديهم القدرة عىي طرح الأسئلة والمساءلة كما أوضحنا ذلك سابقاً، فقد اندمجوا في منبر الدم هذا وصالحوا بين العود والبارود من أجل تدمير وطن غني، بعضهم لجمالياته ولو مقلدا، وبالتالي فبدلاً من أن يتحول الفنان لداعية سلام أصبح جهاديا في حرب (الإسلاميين) ومرتديا زي الجيش الذي اختلط بكتائب البراء بن مالك من أجل كتابة تاريخ الدفن، و المبرر لذلك هو دعم (الجيش الوطني) دون إدراك مدى علاقة هذا الجيش بالحركة الإسلامية وقتله للناس في حرب داخلية تدميرية، في المقابل لهذا وعبر طرائق الدعم السريع و لطرف الذي يقاتل الجيش ومعه الحركة الإسلامية ظهرت ( الحكامات) وهن مغنيات القبيلة اللاتي يؤججن الحروب ويدفعن باتجاه القتل، الفارق بين الحكامات ومغنيات المدينة هو التعليم، وهي الدائرة التي تم طمسها من خلال حكم الإسلاميين و تحولت دائرة الغناء في زمن الحرب إلى غناء قبائلي، وفيه كل طرف يغني لرهطه الحامل للسلاح، ولكن الصوت الذي يعلو فوق كل هؤلاء هو صوت البندقية، ولهذا فإن هذه الحرب يأتي وقعها على القتل وفي كل الاتجاهات، إذ يصبح الفن فنا على وقع البنادق ويشارك الفنان/ المغني في منبر الدم هذا دون أن ان يدرك أن الرصاص لايغني ولكنه يقتل، والفن لايتصالح مع الرصاص والنيران المشتعلة.
لقد شاهدت الفنانة ندى القلعة في فيديو وهي وسط رجال المطافيء تغني ويتحلق حولها هؤلاء (الأشاوس) ويرفعون أيديهم عالية بالتكبير فوق رأس المغنية المعجزة، التي تروج للذبح، وقد كانت النار خلفهم جميعاً تلتهم صهريجا للبترول لم يستطيعوا الاقتراب منه وإطفاء نيرانه، وهذا هو منبر الدم الذي يغوص فيه بعض الفنانين، مع لفت النظر إلى أن هنالك فنانين وفنانات أصلاء وأصيلات لم يغمرهم زيف الحركة الإسلامية ووقفوا ضد هذه الحرب وهي الفئة التي نراهن عليها بأتجاه صياغة فن جديد يعي جدلية الفن بالحرية والسلام ويسعى مع الآخرين نحو تفتيت منبر الدم من أجل صياغة منبر الحياة والإبداع.
Leave a Reply