قالتا “لا” في السياق الصعب

د. توتا صلاح

كتاب “العقد الفريد” يُعَد من روائع كتب التراث لمؤلفه “أحمد بن محمد بن عبد ربه” ،
وقد شَكٌل هذا الكتاب ما يشابه دائرة معارف مُصَغٌرة،
بل ويعتبره البعض أحد المصادر للتاريخ والمرويات العربية قبل الإسلام وبعده،
وفي كل الأحوال هو موسوعة ذات فرادة تناولتْ مواضيع شتى في الحديث عن السياسة والسلطات .
واحْتَوَتْ على لمحات من التاريخ
وأخبار الحروب
وأيضًا أتَتْ على إشارات للأخلاق والعادات
وكذلك تَضَمَنَتْ مختارات شعرية ونظرات في البلاغة والنقد.
كما أنها حَفَلَتْ بكثير من الأمثال والمواعظ والمراثي.
قال ابن عبد ربه في مقدمة كتابه واصِفًا لمحتواه :
«ألفت هذا الكتاب وتخيرتُ جواهره من متخير جواهر الأدب
ومحصول جوامع البيان،
فكان جوهر الجواهر
ولباب اللباب،
وإنما لي فيه تأليف الاختيار
وحسن الاختصار
وفرش لدور كل كتاب،
وما سواه فمأخوذ من أفواه العلماء
ومأثور عن الحكماء والأدباء”

كتاب” العقد الفريد ” أتى في ثمانية مجلدات، وقد قام بتحقيقه عدد من المحققين منهم محمد سعيد العريان.

أُخَذ البعض على كتاب “العقد الفريد” أنه أتى ساردًا و راويًا لأخبار المَشْرِق رغم الانتماء الأندلسي المغاربي لمؤلفه،
لذا قال أحد أعلام المشرق عن “العقد الفريد ” لما قرأه :
(هذه بضاعتنا رْدَتْ إلينا )!!!!!!
إلا أن آخرين قاموا بدحض هذا النقد أو المَأخذ بأن بُغْيَة الكتاب هي نقل معارف أهل المشرق من أدب وعلم وفن لأهل الأندلس!!!!
بِدأً مُؤلِف الكتاب أطلق عليه اسم «العقد»، ثم أُضاف إليه بعضهم توصيف “الفريد ” تأمينًا على تفرده وفرادته !!!
ابن عبد ربه أراد لكتابه أن يأتي مُماثلًا ل”عقد” كذاك الذي يزدان به “الجيد” ، ينتظم به خمسُُ وعشرون “فَصٌُُ” من الأحجار الكريمة،
لذا قسّم كتابه إلى أبوابٍ بذات العدد ، اثني عشر حمل كل منها اسم حجر كريم بذاته، ثم تجئ “واسطة العقد” .
لتتكرر بعدها اثنتي عشر حبة أُخَرْ بذات الأسماء تُذَيِلها أرقام ليكتمل العقد بخمس وعشرين حبة،
و قد رَتَب أحجاره الكريمة كما الآتي :-
1-اللؤلؤة في السلطان: وكان ذلك فاتحة كتابه بعد المقدمة، فَأَمٌن فيه على ضرورة طاعة السلطان !!!!!!!
ولا غرابة فقد كان شاعرالبلاط ونديمه !!!!!!!!!!!
وتحدث أيضًا عن المناخ النفسيي للسلطان !!!!!
ولكن لم يَفُتْ عليه تقديم النصح للسلطان !!!!!!!
2-الفريدة في الحروب : ذكر فيها أن الحرب مكيدة !!!!!!!
ولم ينس حق المستجير والأسير !!!!
3-الزمرجدة في الأجواد والأصفاد : وتضمن ذلك مدح الكرم وذم البخل. تحدث أيضًا عن العطاء قبل السؤال،
و استنجاز المواعيد .
4-الجمانة في الوفود : وهي تتحدث عن سانحات قدوم الوفود للنبي صلي الله عليه وسلم وللخلفاء والملوك
5–المرجانةً في مخاطبة الملوك : عاد نديم السلطان ليتحدث عن ” البيان باللسان وتعظيم السلطان ”
لكنه لم ينس أن يتحدث عن تذكير الملوك بالعهد
والكفالة !!!!!!
6-،الياقوتة في العلم والأدب : أتى كأطول فصول كتابة، فتحدث فيه عن العلم
وضرورة الحث على طلبه وضبطه وتثبيته
7- الجوهرة في الأمثال.
8-الزمردة في المواعظ والزهد .
9-،الدرة في المعازي والمراثي .
10-اليتيمة في النَسَب( ليس في أنساب العرب فقط بل في أصول أنساب البشرية .
11-العسجدة في كلام الأعراب : احتَوَى على كلامهم في الدعاء والذم والمدح والغزل وغيرها.
12–المجنبة في الأجوبة : أي الأجوبة لأسئلة في سياق يتطلب سريعة للبديهة وحضور كثيف، وساق أمثلة لذلك من أجوبة العلماء.
13- “واسطة العقد”، التي تتحدث في الخطب. : بدأها بخطبة النبي الكريم في حجة الوداع ،
وأتى أيضًا ببعض الخطب، التي شُهِرَتْ بقوتها وبلاغتها.
ثم واصل في نظم حبات عقده الفريد بعد انتصاب “الواسطة ” ، فبدأ بذات التسميات للحجارة الكريمة من حيث انتهى قبل”الواسطة” مع إضافة رقم متسلسل للتمييز :-
14- المجنبة الثانية في التوقيعات : وهنا تحدث عن الكتابة وفصولها وأدواتها وأخبار الكُتاب.
15-العسجدة الثانية في الخلفاء.
حيث افتتح الحديث عن الرسول الكريم، ثم الخلفاء من بعده.
16- اليتيمة الثانية في زياد بن آبيه و الحجاج والبرامكة .
17-الدرة الثانية :عن أيام العرب ووقائعهم تحديدًا في الجاهلية.
18-الزمردة الثانية في فضائل الشعر : حيث حَلَق في فضاءات الشعر في مختلف الأزمان .
19-الجوهرة الثانية في أعاريض الشعر
20-الياقوتة الثانية في علم الألحان : تحدث عن أصل الغناء وأخبار المغنين .
21-المرجانة الثانية في النساء وصفاتهن !!!!!!!!
22-الجمانة الثانية في المتنبئين والممرودين : تحدث عن أخبار مُدٌعي النبوة وأخبار البخلاء وغيرهم .
23-الزبرجدة الثانية عن بيان طبائع الإنسان : هذا الباب فيه شيء من علم الاجتماع .
24-الفريدة الثانية في الطعام والشراب :
وفي هذه السانحة يتحدث عن أطعمة العرب واسمائها وتأثيرها على النوم والحركة .
25-اللؤلؤة الثانية في النتف والهدايا: ضَمٌن في هذا الباب أطرف ما ورد في سابق أبواب كتابه .
……ابن عبد ربه كان ميلاده عام 860 م بالأندلس في قرطبة حين كانت حاضرةً سامقة .
كان أحد علمائها
عُرِف عنه سعة الإطلاع في العلم والرواية والشعر !!!!
كان كاتبًا ،
و شاعرًا فقد قال في إحدي قصائده :

الْجِسْمُ في بَلَدٍ والرُّوْحُ في بَلَدِ
يا وَحْشةَ الرُّوْحِ، بَلْ يا غُرْبَةَ الْجَسَدِ
إِنْ تَبْكِ عَيناكَ لِي يَا مَنْ كُلِفْتُ بهِ
مِنْ رَحْمَةٍ، فَهُمَاْ سَهْمَانِ فِيْ كَبِدِيْ

ومِن إشعاره هذه الأبيات الرائعة، التي هي من بعض ما أطلق عليها ابن عبد ربه اسم ” الممحصات”
وهي تُمَثِل نُظْمًا له مخالفًا لما نظمه في بواكير عمره مِن غزليات و مواجد :-

أَلا إنِّمَا الدُّنيا نَضارَةُ أيْكَةٍ
إذا اخْضَرَّ منها جانِبُ جَفَّ جانِبُ
هِيَ الدَّارُ ما الآمالُ إلاّ فَجَاْئِعٌ عليها،
ولا اللَّذَّاتُ إلاّ مَصائِبُ
وَكَمْ أسْخَنَتْ بالأمس عَيناً قريرَةً
وقرَّت عيوناً دَمْعُها الآنَ سَاكِبُ
فلا تَكْتَحِلْ عَيناكَ مِنْها بِعَبْرَةٍ
على ذاهِبٍ مِنها فإنّكَ ذاهِبُ

وقد رثى ابن عبد ربه ابنه في أشعار رَشَقَتْ حزناً و اسي ، فقال:
وا كَبدا قدْ تَقَطَّعَتْ كَبِدي ***
وحَرَّقَتْهَا لواعِجُ الْكَمَدِ
ما ماتَ حَيٌّ لِمَيِّتٍ أَسَفاً ***
أَعْذَرُ مِنْ والِدٍ على وَلَدِ
يا رَحمَةَ اللَّهِ جاوِري جَدَثاً ***
دَفَنْتُ فِيهِ حُشاشَتي بِيَدِي
وَنَوِّري ظُلْمَةَ الْقُبُورِ على مَن ***
لَمْ يَصِلْ ظُلْمُهُ إِلى أَحَدِ

وقال في قصيدة أخرى أيضًا في رثاء ابنه :
على مثلها من فجأة خانني الصبرُ ***
فراق حبيب دون أوبته الحشرُ
ولي كبِد مشطورةٌ في يد الأسى ***
فتحتَ الثرى شطرٌ وفوق الثرى شطرُ
يقولون لي صبِّر فؤادك بعده ***
فقلت لهم ما لي فؤاد ولا صبرُ
.
كان ابن عبد ربه “وشاحًا” أي ناظمًا للموشحات، بل هنالك مَن ينسب إليه ابتداع “التواشيح” أو “الموشحات” رغم أنه لم يتطرق لذكرها في”عقده الفريد”!!!!!
ابن عبد ربه أخذ من غيره ،
وغيره أخذ منه
فهو قد أخذ من مصادر مثل البيان والتبيين للجاحظ ،
وعيون الأخبار لابن قتيبة ،
و تاريخ الأمم والملوك للطبري،
والكامل للمبرد
قم أتى مَن أخذ منه مثل ابن خلدون في المقدمة ،
والبغدادي في خزانة الأدب
أي أنه أثٌر وتَأثَر…….وفَعَلَ وتفاعل
سيرته تقول أنه عَمِلَ في بلاط الأمير محمد بن عبدالرحمن الداخل، ثم لازم ابنه المنذر من بعده ثم أخيه الناصر ، أي أنه كان شاعر البلاط ونديمه ،
تَضَمَن “عقده”الكثير من الأدبيات و المرويات عن النساء !!!!!!!!!!
تَرَسٌخَتْ بذاكرتي مَرْوِيتان حيث قالت فيهما المرأة “لا ” حين كان السياق دقيقًا !!!!!

جاء في إحدي المرويات أن علي بن أبي طالب قال لرسول الله صلي الله عليه وسلم ( يا رسول الله لو تزوجت “آمّ هانئ بنت أبي طالب” فقد جعل الله لها قرابة فتكون صهرًا أيضًا )
فلما خطبها رسول الله صلي الله عليه و سلم قالت ” و الله إنه أحب اليٌ من سمعي وبصري
ولكن إن حقه لَعظيم
وإني لَمُؤتمة ،
فإنْ قمتٌ بحقه خُفتُ أن أُضَيِع أيتامي
وإن قمتُ بأمرهم لَقَصَرْتُ عن حقه”
إنها قالتْ”لا “للرسول الكريم !!!!!”

رَوَتْ السِيَر أن الخليفة عمر ابن الخطاب خطب “أمَّ كلثوم” بنت أبي بكر وهي صغيرة، فأرسل إليها السيدة عائشة فقالت أم كلثوم “لا حاجة لي فيه”
فقالت لها عائشة”أترغبين عن أمير المؤمنين؟!”
فردتْ أمُ كلثوم قائلة : “نعم، إنه خشن العيش، شديد على النساء ”
إنها قالت “لا” للخليفة عمر بن الخطاب !!!!

إنٌهنَ قُلْنَ “لا” في سياق دقيق تَتَطَلَب ال”لا”
قوة و شجاعة و حصافة ، لكنه ليس سياق ظلم او قهر او إجحاف !!!!!

فقولي بملء الحرف وقوته :
لا للظلم
لا للقهر
لا للعنف
لا للذل
و ألفَ “لا” للحرب

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.