
زكريا نمر
من جنوب السودان
في العديد من المجتمعات، التي لا تزال محصورة في إطار القبيلة، لا يُعتبر العلم والمثقفون دعائم أساسية للتقدم، بل يُنظر إليهم كغرباء أو حتى خونة للتقاليد. لذا، ليس من المستغرب أن تشعر القبيلة بالعداء تجاه من يسعى للخروج من حدودها، فقط لأنه يحاول إعادة تعريف مفهوم الولاء، من الانتماء العائلي إلى الانتماء الوطني، ومن العصبية إلى الكفاءة.
في عيون القبيلة، يُعتبر المثقف كالغريب في أرضٍ قد حُددت معالمها منذ قرون. يأتي حاملًا أسئلته، مشككًا في المسلمات، ناقدًا للتقاليد، التي أصبحت مقدسات، ومصرًا على تقديم العقل على النقل، والقانون على العرف. في هذه الحالة، يتحول الجهل إلى فضيلة، وتصبح المراجعة خيانة.
عندما تُوزع المناصب بناءً على الولاء القبلي بدلًا من الجدارة والكفاءة، تُقمع المواهب في بداياتها، وتُبعد العقول عن الساحة. ينتج عن ذلك تحالف غير معلن بين زعماء القبائل وعناصر الفشل، حيث يتبادلون المنافع ويتقاسمون الغنائم من خلال محاصصات لا تعترف بالمؤهلات العلمية، بل تركز فقط على “من هو ابن من”. وبهذا، يُقدم الفاشلون في الصفوف الأمامية، بينما يُدفع الكفوؤون إلى الظل، مما يؤدي إلى تقويض الدولة وتحويلها إلى هيكل هش يخدم جماعات معينة بدلًا من الوطن.
وقد أشار الكاتب السوداني عبد الله علي إبراهيم إلى هذه الظاهرة بدقة، حيث قال إن أي محاولة لتثبيت الدولة في مواجهة القبيلة هي معركة لا تنتهي، لأن القبيلة تسعى دائمًا لاحتكار مفهوم الشرعية.
الأمر الخطير هو أن القبيلة لا تكتفي بإقصاء المثقفين، بل تشرعن الفساد تحت ذريعة الدفاع عن “أهلها”. فعندما يُتهم أحد أبناء القبيلة بسرقة المال العام، يُدافع عنه ليس لأنه برئ، بل لأنه “منا”. وهكذا، تُختزل العدالة إلى ميزان مختل، حيث تتفوق العاطفة على القانون.
يصبح الفساد مقبولًا ما دام يخدم العصبية، ويصبح التهرب من القانون شطارة اجتماعية. وعوضًا عن أن تحمي القبيلة أبناءها من الانحراف، تتحول إلى حصن لهم، فتتواطأ الصمت مع الجريمة، ويتحول البسطاء إلى وقود يدافعون عن لصوصهم لأنهم يشبهونهم.
إن أخطر ما تنتجه هذه المنظومة هو سحب البلاد إلى مربعات الجهل والجهوية والاحتراب الأهلي. حين تسود ثقافة الانتماء الضيق، ويتراجع مفهوم المواطنة، يصبح كل خلاف سياسي قابلًا للتحول إلى صراع دموي. الحرب الأهلية، في هذه الحالة، ليست نتيجة مؤامرة خارجية، بل نتاج داخلي لفشلنا في بناء عقد اجتماعي مدني يتجاوز القبلية والطائفية.
تجارب رواندا وغانا أثبتت إمكانية تجاوز القبلية. فقد أعادت رواندا بناء هويتها الوطنية بعد المجازر العرقية، مستندة إلى قيم إنسانية ومدنية مشتركة. من جهة أخرى، عملت غانا على تقليص تأثير الهويات العرقية في مؤسساتها العامة، معتمدةً على مبدأ التعددية السياسية والمساءلة القانونية كدعائم للاستقرار.
المعادلة واضحة: إما أن نختار العقل والعلم، أو نترك مصيرنا لورثة الجهل. إما أن نبني دولة تكافئ الكفاءة، أو نكرس نظامًا لا ينتج سوى الولاء والتبعية. إن تحرر المجتمعات من قيود القبيلة لا يعني القضاء على الهويات، بل يعني تحرير الإنسان من أوهامها القاتلة، وتحرير الوطن من قبضة أولئك الذين يعتبرون الدولة مزرعة وراثية.
ليس من الغريب أن ترفض القبيلة المثقف، لكن الغريب هو صمت المثقف حيال ذلك. كما يقول المفكر إدوارد سعيد، فإن المثقف الحقيقي هو من يواجه السلطان بالحقائق، لا من يبرم الصفقات خلف جدران الطاعة.
Leave a Reply