
د. أشرف مبارك أحمد
كانت دار الحاج عبد الله ود العاقب تحتل مربعًا كاملًا من الحي، وكانت مقسمة في الداخل إلى عدة دور لتستوعب زوجاته الثلاث بأولادهن وبناتهن.
في الطرف الشمالي الغربي من الدار، حيث دار حليمة، حين يتنفس الصبح، كانت حليمة تعرف أن الوقت قد حان. لا حاجة لمنبّه، فالفجر الصادق يؤذن لا ليوقظها، بل ليجدها على قدميها، لما تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. توضأت وسجدت على سجادتها الصغيرة، ثم أسبلت ثوبها فوق كتفها، ومضت نحو عنزاتها. كانت تعرفهن بأسمائهن وأمزجتهن. تعصر ضرع الأولى وتربت على خاصرة الثانية وتهمس للثالثة بأغنية. ومضت إلى التكل، أشعلت الفحم في الموقد، والحطب تحت صاج العواسة فأخرج دخانه ونفث رائحته التي تدل على بيت ينبض بالحياة.
حين بدأ اللبن بالغليان، رشت فيه بهاراتها كأنها تُرقيه: حب الشاي، حبهان، قرنفل، زنجبيل، وقليل من القرفة. الشاي عند حليمة ليس شرابًا، بل طقس تقدمه وهي نصف شاعرة ونصف أم.
في نفس الوقت يحدث مثل هذا عند عزيزة وأيضا عند آمنة، مع اختلاف أن ليس عند عزيزة ولا آمنة أغنام وكن يشترين لبن البقر من عباس سيد اللبن. ولم تكن آمنة تعرف كيف تصنع الكسرة، وكانت حليمة تمدها بها مما عاست من فوق الحائط. وتجمع عزيزة البيض من دجاجاتها وتوزعه على بيتي حليمة وآمنة، ولا تنسى أن تطلب من حليمة مساعدتها في ذبح ديك إن كانت تنوي إعداد ديك للغداء.
البيت بعد قليل سينهض من سكونه. يعود عبد الله من المسجد، خطواته تحفظها الأرض. بعده سعد، فالصادق وفاروق، وكل منهم يمشي على إيقاع خاص به. زكية سبقتها إلى التكل، ترفع كم ثوبها وتحاول أن تصب العجين شبه السائل مثل أمها. وحين تتسلل الشمس من شباك المطبخ أو التكل تعرف حليمة أن الوقت قد دخل في جد الصباح وحان تقديم الشاي للحاج والبدء في إعداد الإفطار. أما صفية فتبدأ في ترتيب البيت وكنس الحوش.
كل شيء عند حليمة يتم بهدوء حتى نداءاتها، فيها رنين يُشبه الجرس لا يُخطئه أحد:
– الراعي الراعي! تعال!
وذلك عندما تسمع صوت الراعي الذي يأخذ للحي أغنامه للرعي في الصباح خارج البلد. لا تنادي كثيرًا، مرة واحدة تكفي. أو الدقاق حينما يمر على الحي ويهتف في الشارع إن كان هناك من يريد طحن حبوبه، فتناديه:
– الدقاق! الدقاق! تعال!
حين ترسل زكية الصينية إلى الديوان، لا تخبر والدها، هو يعرف. يجلس، يتناول الشاي باللبن، ثم يتهيأ للذهاب إلى السوق، يلبس جلبابه وعمامته، ويضع القفطان. وتكون صفية قد جاءت بالفطور أو جلبته في عمود حفظ الطعام ليأخذه معه.
في الضحى كانت أحيانا تستقبل جاراتها أو ضرائرها، يتحدثن عن أخبار الحي، عن الحياة، وعن البنات اللواتي كبرن فجأة وكل واحدة تتمنى أن تخطب ابنتها اليوم قبل غد.
في الجهة الأخرى من المنزل، التي تفتح في زقاق ضيق بالكاد تمر فيه سيارة الحاج الأوستن، كانت تتكئ شراشف مغسولة على الحبال كأنها أعلام. عزيزة بملامحها، التي استقرت كخيوط قديمة على ثوب كثير الاستعمال، تمرر الإبرة في فستان زينب وتهمهم بتنغيمٍ عذب كأنها تغني: الدنيا يا بنية خياطة، كل زول بخيط ليهو أيامه…
كانت عزيزة ماهرة في الخياطة فكانت تخيط الفساتين لبناتها زينب وأم سلمة سعاد ولابنة آمنة نوال ولابنتي حليمة زكية وصفية.
الخيط الأخضر في ثوب نوال جعلها تحس بالأمل. آمنة تنظف نظارتها بنزق وتراقب نوال:
– يا نوال عيونك ضعفت!
ونوال حلمت مع صرامة أمها بالسبورة والطباشير.
حليمة تذكي بخورًا في الزوايا، تحاول أن تطرد الرائحة، التي تذكرها بخيبات ليل لا طعم له ولا لون وأن تطرد الشياطين. يدها تمسح الطاولة أكثر من اللازم. “سعد تأخر الليلة كمان…”
تسمع وقع خطواته، رائحته الليلية الممتزجة بالخمر والندم. الصادق نائم، فاروق يتظاهر بالمذاكرة. تحدث نفسها: “سعد كويس… بس الزمن دا ما بيساعد الأولاد… أولاد آمنة حظهم أحسن”.
شريف ود آمنة، كما يطلق عليه أهل أمه، في سكن الجامعة الداخلي يأتيهم كل نهاية أسبوع. كان اليوم وسط الجموع، لم يكن يعرف عنوان الندوة. حين أفرج عنه عاد إلى البيت وفي عينيه شيء مبهم. قال له الحاج عبد الله: “قالوا عليك سياسي؟ ” هز شريف كتفيه وفي يده كتاب التشريح.
في المتجر، جلس سعد يعبث بمفاتيح درج النقود. النهار ثقيل، والعيون تتفرج ولا تشتري. وجهه يشبه أباه حين يغضب، لكن في عينيه ثمة انكسار أو تعب من ليلة البارحة وربما كان يتمنى أن يدرس مثل إخوانه، ربما!
دخل الصادق، الذي كان ينتظر التوظيف بعد أن أنهى دراسته. “أبوك يسأل عنك، ما بقيت تجي حتى العصرية…” رد بضحكة: “أبوك يسأل عنك انت وإلا بتلعب دور الكبير هسي؟”
الصادق مضى للداخل، حيث يجلس الحاج عبد الله يراجع دفتر الحساب. رفع عينه، ثم أنزلها. وجلس الصادق في صمت، ونظر إلى صورة والده المعلقة على الجدار فوق المذياع الخشبي الكبير. أُخذت هذه الصورة قبل سنوات قليلة يوم الاحتفال بالاستقلال.
في الخارج، ضجيج المدينة يعلو على همس البيوت. الإذاعة تهمس بأغنية قديمة مقطوعة، ثم يجيء صوت المذيع الرتيب: “قرارات المجلس العسكري تُبث بعد قليل…”
في البيت فاروق يضحك بلا سبب. يقرأ في ورقة لعلها رسالة غرامية. كان قبلها يتحدث في التلفون. والكتاب أمامه مفتوح على نفس الصفحة منذ الصباح. قالت حليمة: “قفل التلفون دا وتعال ساعدني أنزل الغسيل…”
آمنة تقرأ جريدة قديمة: “لو دخلتي الجامعة، ما دايرة أسمع اسمك في مظاهرة…اجتهدي ما تبقوا لي زي أخوانكم”. نوال كانت تأمل في معهد المعلمين العالي مثل ابن خالتها.
قبيل المغرب يعود كل شيء إلى مكانه. يعود الراعي بالغنم، الدقاق بالدقيق، وبعد العشاء تضع حليمة كورية اللبن قرب سرير الحاج إن كان مبيته عندها.
كانت الأخبار تدور حول انتخابات لا تأتي، أحزاب لا تتفق. في الخارج كان صخب الأهواء والتيارات أنصار، اتحاديين، يسار وإخوان والصحف والبرش بقرش.
بعد صلاة العشاء، جلس الحاج عبد الله قرب سريره، كورية اللبن قربه، والليل يتمدد.. جلس يراجع في صمت، لا الأوراق ولا دفتر الحساب، بل وجوه أولاده، وبناته، وزوجاته الثلاث. كان يعرف أن البيت مثل ثوب قديم، مليء بالرقع، لكنه دافئ. “بس لو سعد يروق، وفاروق يلقى ليه طريق…” ثم غمز لنفسه: “والبلد؟ البلد دي كلها دايرة ترقيع…”
Leave a Reply