البعث كرسالة خالدة: من التأسيس الروحي إلى تجدد الفعل الثوري

بقلم:
أ. أسامة بوب – أ. ماجد الغوث

■ في سياق مضطرب تراجعت فيه القيم، وتفككت فيه المعاني الكبرى، يعود السؤال من جديد: ما معنى أن يكون لحزب ما “رسالة خالدة”؟ وهل يمكن لفكرةٍ، وُلدت قبل أكثر من سبعة عقود، أن تظل حية، قادرة على اجتراح المعنى في عصر الرقمنة والعولمة والتفتت القومي؟ هذا هو التحدي الذي يواجهه حزب البعث العربي الاشتراكي اليوم، لا كمجرد تنظيم سياسي، بل كرسالة حضارية، وفلسفة وجود.

■ حين تأسس الحزب في أربعينيات القرن العشرين، لم يكن استجابةً للحظة سياسية عابرة، بل ولادةً فلسفية مكتملة الأركان. فقد جاء البعث كحركة انبعاث لروح الأمة، وإعادة وصل بين الإنسان العربي ومخزونه التاريخي، لا بوصفه نوستالجيا للماضي، بل بوصفه وعدًا للمستقبل. ومنذ لحظة الإعلان في مؤتمر نيسان 1947، لم يُعرّف البعث نفسه كحزب سلطة، بل كحزب قضية، يستهدف تحرير الأرض، لكن أيضًا تحرير الإنسان.

■ كان مؤسس الحزب، ميشيل عفلق، يُدرك أن السياسة، بدون روح، تتحول إلى ميكافيلية رثّة. ولذلك، انطلق البعث من رؤية روحية ـ عقلانية، تستند إلى تراث الأمة كما تستشرف آفاق الإنسانية. وهكذا، لم يكن شعار “وحدة، حرية، اشتراكية” مجرد كلمات ثلاث، بل ثلاثية فلسفية تختزل مشروعًا كاملًا: وحدة الأمة كجسد، حرية الإنسان كروح، وعدالة النظام كعقل.

■ وقد وضع المؤتمر القومي الرابع للحزب أساسًا نظريًا لسماته الرسالية، مُحدّدًا أربع صفات مركزية: الثورية، العلمية، الشعبية، الأخلاقية. إلا أن هذه السمات، كما الزمن، لا تكفيها التعريفات، بل تتطلب إعادة تأويل وتجسيدًا حيًا في واقع متغير.

■ فالثورية، مثلًا، ليست عند البعث لحظة انتفاض أو غضب، بل مسار وعيٍ متجدد. هي ثورة على الجمود بقدر ما هي ثورة على الاستعمار. وهي لا تتجلى فقط في الشارع، بل في العقل، وفي الفكرة، وفي الموقف. فالبعثي الثوري هو من يثور على ضيق التنظيم، كما يثور على التبعية، من يعيد بناء أدواته الفكرية، لا فقط يسير خلف أدوات موروثة.

■ أما العلمية، فهي ليست تقنية إدارية، بل شرط وجودي للحزب الرسالي. العلمية تعني أن يُصاغ الفعل السياسي والاجتماعي والمعرفي على أساس الرصد، والتحليل، والتفاعل مع الواقع. في زمن البيانات الكبرى والذكاء الاصطناعي، لم يعد من الممكن للحزب أن يبقى في موقع التلقي، بل أن يتحول إلى آلة معرفية تُنتج الفهم وتُعيد تشكيل الرؤية.

■ أما الشعبية، فهي ليست توددًا للناس، بل تجسيدٌ للتماهي معهم. فالجماهير في فكر البعث ليست مجرد جمهور، بل شريكٌ في البناء، ومصدرُ الشرعية، ومجال إنتاج الرسالة. الحزب الرسالي لا ينطق باسم الجماهير، بل يُصغي إليها، ويخاطبها بلغتها، ويُعيد اكتشاف ذاته عبرها.

■ وأما الأخلاقية، فهي العمود الفقري للفكرة. فإذا كانت السياسة الحديثة قد مالت إلى البراغماتية الباردة، فإن البعث أصرّ أن الأخلاق ليست إضافة تجميلية، بل بنية داخلية. وحدة النظرية والسلوك ليست شعارًا في الهوامش، بل هي المعيار الأعلى. فالغاية النبيلة لا تتحقق بأدوات ضعيفة.

■ وإذا كانت التنظيمات قد ترهّلت، أو ترسبت في رتابة اللوائح، فإن العودة إلى فكر البعث ليست استذكارًا نوستالجيًا، بل استدعاءً للنبع الحي، وللمعنى الذي لم يفقد راهنيته. فمن يقرأ في “في سبيل البعث”، أو في مؤلفات “الدين والقضايا الدينية”، أو “الاشتراكية العربية”، أو “المناضل البعثي”، لا يقرأ نصوصًا حزبية، بل يقرأ فيلسوفًا سياسيًا يحاول أن يجيب على السؤال الأصعب: كيف يمكن للأمة أن تكون نفسها؟

■ لهذا، فإن البعث، في جوهره، ليس حزبَ مرحلة، بل حزبَ مصير. ولأن المصير لا يُصاغ بالشعارات، بل بالفعل، فإن البعث اليوم مدعو إلى تجديد ذاته من داخله، لا بالقفز على تاريخه، بل باستيعاب ذلك التاريخ ضمن منهجٍ نقدي، يُعيد تأويله، ويُفعّل رموزه، ويحرّر القيم من نمطيتها.

■ إن حزبًا يحمل في تعريفه ذاته “الرسالة الخالدة” لا يمكن أن يعيش في الظل، أو يتقوقع في البيروقراطية. فإما أن يُبعث من داخله، أو أن تتجاوزه لحظة التاريخ. وهذا ما يُكسب حديث السمات الرسالية معنى آخر: إنها ليست مواصفات على ورق، بل شروطٌ للنهضة، ومعايير للفاعلية، ومحكٌ للجدارة.

■ وهكذا، إذا أراد البعث أن يستعيد موقعه في قلب الأمة، فعليه ألا يُسائل الآخرين، بل أن يُسائل نفسه أولًا. فالمستقبل لا يُمنح، بل يُنتزع. وتاريخ الرسالات يؤكد: أن الرسالة لا تموت، إلا إذا تخلّى عنها أبناؤها.

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.