
بقلم: ابو عكرمة
منذ لحظة انبثاقها، لم تكن الاشتراكية مجرّد نظرية اقتصادية تناهض الرأسمالية، بل كانت وعداً أخلاقياً بإنصاف الإنسان، وردّ الاعتبار للعمل كقيمة، وتحقيق العدالة الاجتماعية بوصفها شرطاً للتحرر الكامل. واليوم، إذ يدخل العالم طوراً جديداً من التحوّل العميق نحو الرقمنة الشاملة، تعود الأسئلة الكبرى لتُطرح بصيغة مغايرة: هل انتهى عصر الاشتراكية، أم أن التحول الرقمي يخلق شروطاً موضوعية لاشتراكية من نوع جديد؟ وهل يمكن لأفكار المساواة والعدالة أن تجد طريقها وسط شفرات الكود، وخوارزميات الذكاء الاصطناعي، وسلاسل الكتل (Blockchain)؟
الاقتصاد الرقمي لم يعد قطاعاً مضافاً إلى الاقتصاد التقليدي، بل أصبح البنية التحتية الجديدة للإنتاج والتوزيع والتفاعل البشري. ففي عالم تحكمه المنصات الرقمية، حيث يُصبح “البيان” هو “السلعة”، و”المعلومة” هي “القوة المنتجة”، تتغير قواعد اللعبة بالكامل. لكن المثير أن هذا التحول – في لحظة من لحظاته – يعيد طرح أسئلة اشتراكية بامتياز: من يملك أدوات الإنتاج الجديدة؟ من يسيطر على البيانات؟ من يحدد القيمة؟ ومن يستفيد من فائض القيمة الذي تولده المجتمعات عبر تفاعلها الرقمي؟
في هذا السياق، تبرز المنصات التشاركية – من البرمجيات المفتوحة المصدر (Open Source)، إلى العقود الذكية على شبكات البلوك تشين، إلى نماذج الاقتصاد التعاوني (Gig Economy) – كمختبرات حية لتجارب اقتصادية تتجاوز المركزية، وتعيد توزيع الفعل الإنتاجي، وتمنح الأفراد مساحات حقيقية للمساهمة والتملك المعرفي. قد لا تكون هذه المنصات اشتراكية بالمعنى التقليدي، لكنها تحمل في جيناتها بذور اشتراكية رقمية ناشئة، قوامها لامركزية السلطة، والشفافية، والتوزيع العادل للقيمة.
لكن هل هذه الاشتراكية الرقمية ممكنة؟ الإجابة هنا ليست بنعم أو لا، بل في طرح الأسئلة الصحيحة. ذلك أن الرقمنة ليست حيادية، بل تحمل تناقضاتها الداخلية. فمن جهة، يمكنها أن تمكّن الأفراد، وتفتح آفاقاً للمعرفة الحرة، والتعليم المفتوح، والعمل اللاتمركزي، ومن جهة أخرى، قد تُعيد إنتاج التفاوتات الاجتماعية في شكل فجوة رقمية، واحتكار بياناتي، وهيمنة خوارزمية يصعب تفكيك بنيتها.
من هنا، تطرح الاشتراكية – إذا أرادت أن تبقى مشروعاً تحررياً – تحدياً مضاعفاً: أن تتصالح مع اقتصاد المعرفة دون أن تُختزل في تقنياته، وأن تستخدم أدوات الرقمنة لبناء منظومات أكثر عدالة، لا لتكرار مركزيات جديدة بواجهات شفافة. الاشتراكية الرقمية لا تعني أن نضع العدالة في شكل “تطبيق”، بل أن نجعل التكنولوجيا أداة لتحقيق المساواة في الوصول إلى الموارد، وفي إنتاج المعرفة، وفي المشاركة في القرار.
المعادلة الصعبة اليوم أن تكون الاشتراكية قادرة على أن ترى ما هو جديد دون أن تفقد جذورها: أن تكون حساسة لمتغيرات المنصات، ومراكز البيانات، والذكاء الاصطناعي، لكنها وفية لقيم الحرية، والمساواة، والتضامن. وهنا يكمن جوهر التحول المطلوب: أن يُعاد تعريف العدالة بوصفها شمولاً رقمياً، وتمكيناً معرفياً، واستقلالية بياناتية.
إننا لا نعيش فقط في اقتصاد رقمي، بل في “حقل صراع رقمي” تُعاد فيه صياغة مفاهيم القيمة، والملكية، والعمل. وهذا الحقل هو الفرصة الجديدة للاشتراكية إن هي أرادت أن تُبعث لا كشعار أيديولوجي، بل كمشروع فلسفي ومعرفي وتنظيمي، يردّ الاعتبار للإنسان، لا بوصفه مستخدماً فقط، بل فاعلاً في إنتاج المعنى والحق والعدالة.
إن الاشتراكية القادمة ليست تلك التي تُمليها النصوص المغلقة، بل التي تُنتجها الجدلية المفتوحة بين الإنسان والتكنولوجيا. وستكون اشتراكية المستقبل أكثر تنوعاً، وأكثر مرونة، لأنها ستكون ابنة هذا العصر المتحوّل، لا سجينته. فكما قالت إحدى الباحثات في الذكاء الاصطناعي: “من يتحكم في الخوارزمية، يتحكم في العالم”. ولعل من يتحكم في العدالة داخل الخوارزمية، هو من يحمل شعلة الاشتراكية الرقمية إلى المستقبل.
Leave a Reply