
#ملف_الهدف_الاقتصادي
ليست الحرب في السودان مجرّد نزاع مسلّح بين فصائل متناحرة، بل هي – في جوهرها – عدوان متعدد المستويات، يستهدف الإنسان والذاكرة والمستقبل. ومن بين أكثر مظاهر هذا العدوان إيذاءً للوعي الوطني وضربًا في صميم الدولة، أن تتحوّل المخازن الاستراتيجية – التي لطالما كانت رمزًا للسيادة والسيطرة – إلى أهداف عسكرية يومية، تطالها الطائرات المسيرة بلا هوادة.
في الاقتصاد، لا يُعدّ المخزون الاستراتيجي سلعة كغيرها؛ إنه تعبير مركّب عن الأمن القومي، وتوازن العرض والطلب، وضمان الحد الأدنى من الاستقرار الغذائي والدوائي والطاقوي. حين يُقصف مخزن قمح أو يُنهب مستودع أدوية أو تحترق خزانات الوقود بفعل قذيفة مسيّرة، لا يخسر السودان فقط موادًا عينية، بل تتآكل الثقة، وتترنّح أعمدة الأمل في قدرة الدولة على حماية حياتها الاقتصادية.
لقد غيّرت المسيرات – بتكلفتها الزهيدة وتأثيرها الهائل – طبيعة الاشتباك: من معركة مواقع إلى معركة أعصاب ومنشآت. فالمخازن الاستراتيجية، التي كانت في ما مضى ذخائر صامتة، أضحت الآن أهدافًا مثالية لحرب لا تبحث عن نصر سريع بقدر ما تسعى لتقويض فكرة الدولة ذاتها، وتجريدها من أدوات التعافي. إذ لا مستقبل بلا احتياطي، ولا سلام بلا استقرار غذائي.
وتزداد المأساة تعقيدًا حين ندرك أن المخازن الاستراتيجية في السودان لا تُمثل مجرد فائض يُستأنس به، بل كانت – قبل الحرب – ضرورات توازن اقتصادي لمجتمع منهك أصلًا بديون خارجية وتضخم داخلي وفقر مدقع. ومع تدمير تلك المخازن، تُفقد القدرة على التدخل في السوق، وتتسارع الدورات التضخمية، ويشتدّ الضغط على الطبقات الهشة التي لم يعد لها سوى الصبر… أو النزوح.
إن ضرب المخازن لا يُقاس فقط بكلفة ما تمّ تدميره، بل بما يمنعه من إمكانية الصمود. فكل مخزن يُقصف هو موسم زراعي قد ضاع، ومستقبل غذائي تآكل، وخطة إعمار تعطّلت. وكل ضربة مسيّرة تعني فقدان آلاف الأسر لحصتها من الدواء أو الغذاء أو الوقود، واندفاع المجتمع أكثر نحو الفوضى والـ لا يقين.
ثم إن الأثر النفسي لهذه الهجمات لا يقلّ فتكًا: إذ تُشعر المواطن بأن الأرض لم تعد مصدرًا للحياة، بل ساحةً للموت. تُسقط عن الدولة لباس الحماية، وتضعف من ثقة المجتمع الدولي في قابلية السودان للاستقرار والاستثمار. فالمخازن الاستراتيجية ليست فقط مقياسًا اقتصاديًا، بل أيضًا مرآة تعكس ما تبقى من هيبة الدولة ومصداقيتها.
ولعل من أكبر المفارقات، أن تُضرب المخازن باسم “الحرب الذكية”، بينما تزداد المجاعة غباءً والدماء كثافة. فلا هيبة تُبنى على الرماد، ولا وطن ينهض على أنقاض أمعائه.
إن المطلوب اليوم – إلى جانب الوقف الفوري للحرب – لا بدّ من إعادة النظر في مفهوم الأمن الاقتصادي السوداني، وتحديدًا في بُعده الوقائي. يجب التفكير في بنية لامركزية للمخازن الاستراتيجية، مبنية على تعدّد المواقع، وسرعة التوزيع، والحماية الرقمية واللوجستية. ويجب استثمار التكنولوجيا، لا في التدمير، بل في الإنذار المبكر، والمراقبة، وتأمين سلسلة الإمداد.
الخاتمة:
حين تتحول صوامع القمح إلى رماد، ومستودعات الدواء إلى رموز للفجيعة، ندرك أن الحرب في السودان لم تعد فقط نزاعًا على السلطة، بل مشروعًا ممنهجًا لتجفيف منابع الحياة. ووسط هذا الخراب، يبقى السؤال الجارح مفتوحًا: كم من المخازن يجب أن تُدمّر، وكم من الأفواه يجب أن تجوع، حتى نفهم أن هذه ليست حربًا فقط، بل قطيعة عميقة مع فكرة الوطن.
Leave a Reply