
بقلم: المستشار القانوني: أبوبكر عبد الله آدم
“إن إنسانيتي مرتبطة بإنسانيتك, لأننا لا نستطيع أن نكون إنسانيين إلا معًا”
My humanity is bound up in yours, for we can only be human together’ Desmond Tuto
في تحقيقات جرأئم الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994, أدلى السيد موسابيمانا وغيره من الضحايا بشهادات مهمة منها شهادته حول القس صامويل، الذي حرض وقتل عددًا من التوتسي بنفسه أمام عينّي الشاهد.
كان القس صامويل رجلًا طيبًا ومحبوبًا لدى كل من يؤدون الصلوات في كنيسته ولكنه تحول أثناء حرب الإبادة في رواندا إلى مجرم حرب قام بقتل من كانوا يؤدون الصلوات في كنيسته.
وفي ألمانيا النازية انخرط، خلال حروب الإبادة الجماعية، عدد من المحاميين والأطباء وغيرهم من العاملين في المجالات الإنسانية في جرائم دولية جسيمة منها التطهير العرقي وتمت إدانة البعض مننهم في محاكم نورينمبيرغ في عامي 1945 و1946.
هذان النموذجان، وغيرهما من أكثر حالات تورط من هم في نظر الكثيرين أشخاص محترمين في ارتكاب جرائم بشعة تبين في أحد جوانبها تأثير خطاب الكراهية ودورها في تحويل أشخاص عاديين إلى قتلة ومجرمين .
خطاب الكراهية تقوم على تقسيم المجتمع، بنرجسية، على ولاءات أولية أو روابط قبلية أو إثنية أو عرقية أو جندرية أو غيرها وجعله مجتمع انقسامي بامتياز، تتعارض فيه هذه المكونات أو بعضها وتتضاد لدرجة تجعل نفي أي منها أو القضاء عليها عملًا مشروعًا.
خطاب الكراهية هو خطاب تصيغ مفرداته ذوات فردية أو جماعية مضطربة تبدو سوية ظاهريًا أو هو نتاج ذوات تشبعت بتناقضات مجتمع مضرب فاقد لهويته وتماسه الداخلي أو لآخر. هذه البيئة، التي تنتج خطاب الكراهية، التي يشتغل ويتمدد فيها تجعل عملية قتل الآخر أمرًا عاديًا بسبب تأثيرها على أسلوب تفكير منتجي الخطاب والمتأثرين به ونفسياتهم الفردية أو الاجتماعية.
خطاب الكراهية يبدأ أولًا بإزالة إنسانية منتجيه ومن ثم تهيئة المتأثريين به، بوعي مغبش أو بلاوعي. الإنسان السوي بطبيعته يتأذى ضميره من الانتهاكات ضد أخيه الإنسان ولذا تبدأ الكراهية من الذات المنتجة لها وتحولها إلى لا إنسان.
ثانيًا- يقوم خطاب الكراهية بتحويل المستهدفين به، سواء كانوا ذوات فردية أو جمعية، إلى أشياء أو حيوانات أو تافهين، أي شيء باستثناء كونهم بشر مثلهم. فهم هذه العملية بتسلسلها ضرورية لفهم كيفية اشتغال خطاب الكراهية وفعاليتها في القضاء على إنسانية المستهدفين بهم حتى يكون قتلهم أمرًا عاديًا، تمامًا كقتل الحيوانات كهواية أو من أجل الغذاء أو لأي أسباب دون التفكير عنهم كضحايا. لا يمكن لإنسان سوى الاستمتاع والتلذذ بقتل أو بقر أو تعذيب إنسان مثله ولكن بنفي صفة الإنسانية عنه أو عن ذاته يصبح ذلك ممكننا ومتعة أيضًا للبعض منا. لذا يقوم خطاب الكراهية، بنزع إنسانية العدو ووصفه بصفات مثل “وسخ” “عفن” “حيوان” وغيرها من أوصاف أبشع تجعل قتله كقتل أي حيوان أو مسح وكسح أي عفن.
بل أن خطاب الكراهية أحيانًا تقوم بتوصيف مجموعات معينة، بناء على بعض الروابط الأولية أو الإقليمية بأنهم آخر “لا يشبهونهم” أو أناس ذوي ” وجوه غريبة” أو “عرب شتات” أو “عربي” أو” فروخ” أو غيرها من النعوت غير المقبوله ولكنها للأسف منتشرة في مجتماعاتنا لتوفر مفردات لخطاب الكراهية. وهي عملية تنميط تخلق هوة بين أصحاب الخطاب وآخرون هم أقل منهم، في تصورهم، ولا يمكن اعتبارهم أناس مثلهم مما يجعل عملية نفيهم عن أي مجال سياسي أو الجغرافي أو حتى عملية القضاء عليهم بأبشع الوسائل، عملية عادية (normal) لا علاقة لها بجرائم ضد الإنسانية أو أي انتهاك لقانون حقوق الإنسان. بل أن خطاب الكراهية شكلت أداة للاستقطاب العسكري بتجييش مجتمعات ضد أخرى وتأجيج الحرب والانتهاكات، التي ترتكبها الأطراف المختلفة.
مناهضة خطاب الكراهية، بكافة الوسائل السياسية والثقافية والإعلامية والقانونية أصبحت الآن ضرورة تقتضي انخراط كل فئات المجتمع فيها. فيما يتعلق بالجانب القانوني، من المؤسف أن القوانين السودانية لا توفر نصوص لقمع خطاب الكراهية بشكل واضح ومحكم. بل أن النصوص القليلة الموجودة في القانون الجنائي لعام 1991 المعدل وغيرها من القوانين، لا توفر تعريفًا لهذه الجريمة، وتأتي في سياق سياسي عام أو تتعامل مع جريمة إثارة الكراهية بين الطوائف الدينية. مع أهمية الآليات والفعاليات الأخري لمناهضة خطاب الكراهية، خاصة الدور الكبير، الذي تقوم به حملة (نحن واحد), هناك الكثير، الذي علينا فعله في الجانب القانوني ولابد أن يكون هذا الموضوع على جدول أي مشروع للإصلاح القانوني في السودان.
وللأسف حتى النظام القانوني للمحكمة الجنائية الدولية، التي لها اختصاص على الجرائم، التي تقع في دارفور حصرًا، لا يعتبر متوافقًا مع التطورات القانونية لكثير من الدول بل أنه يعتبر متراجعًا مقارنة ببعض المحاكم الدولية المؤقتة السابقة لها وتعاملها مع خطاب الكراهية. مثلًا المحكمة الجنائية الدولية المؤقتة لرواندا (ICTR) المنشأة عام 1994، وفّرت سابقة قضائية مهمة للمسؤولية الجنائية للأفراد وكذلك المؤسسات الإعلامية عند ارتكاب جرائم الكراهية في قضية راديوRTLM . هذا الراديو قد لعب دورًا كبيرًا في إشاعة خطاب الكراهية، التي أدت إلى مجازر كبيرة والإبادة الجماعية، التي حدثت في رواندا أواسط تسعينيات القرن المنصرم.
ومن المقولات، التي كانت ترددها للتحريض على الإبادة الجماعية مقولة ” القبور لم تمتلئ بعد، من يساعد في ملئها تمامًا ” (‘The Graves Are Not Yet Quite Full: Who is Going to Do the Good Work and Help Us to Fill Them Completely?’). لحسن الحظ لم يفلت مرتكبي هذه الجرائم عن العقاب بل أن هذه القضية ساهمت في وضع الأسس القانونية لخطاب الكراهية كجريمة دولية ووفرت قرارات المحكمة في مستوياتها المختلفة أرضية لحوارات قانونية وسياسية حول هذا الموضوع. للأسف الشديد، إن ميثاق روما والمحكمة الجنائية الدولية رغم كونهما ترجمة لأعلى مرحلة في تطور القانون إلا أن الميثاق لم يسمو بهذه الثقافة القانونية لما تستحقها من عتبات عليا، بسبب المواقف والمدارس القانونية والسياسية للدول، التي ساهمت في صياغته وبالنتيجة لم يترجم راهن القانون الجنائي الدولي العرفي أو المكتوب.
أن اقتصار المسؤولية الجنائية لارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب على الأفراد فقط واستبعاد المؤسسات هي واحدة من عيوب الميثاق.
إن وضع إطار قانوني محكم لمناهضة خطاب الكراهية في السودان، أصبح أكثر أهمية بعد حرب 15 أبريل 2023 وما تبعها من انتشار متصاعد لهذا الخطاب وتزايد عدد مروجوه، بسبب تطور وسائل التواصل الاجتماعي، التي وفرت قنوات غير تقليدية وفاعلة جدا لإنتاجه وانتشاره بسرعة. وبالنتيجة اكتسب تأثيره السلبي قوة دفع إضافية لارتكاب جرائم جسيمة على أساس الكراهية للآخر، وربما هي كراهية للذات الكارهه أيضًا بلا وعي. وقد شاهدنا بعض من هذه الجرائم على وسائل التواصل الاجتماعي نفسها بل تم توثيق “لايفات” و”بوستات” ربما تشكل محتواها أدلة معقولة لمحاسبة أصحابها بتهمة التحريض على
ارتكاب جرائم جسيمة. ولذا يعتبر الكثيرون أن منتجي خطاب الكراهية عبر وسائل التواصل الاجتماعي هم، أشخاص غير أخلاقيين وساهموا بقدر كبير في تأجيج الحرب وتفكيك مداميك المجتمع ولحمته الوطنية ولذا يجب محاربتهم إعلاميًا واجتماعيًا ومطاردتهم في الدول الغربية، التي فيها قوانين تأخذ بالولاية العالمية (Universal Jurisdiction)، التي تسمح بمحاسبة الأجانب علي جرائم جسيمة خارج نطاقها الجغرافي.
Leave a Reply