
بقلم: زكريا نمر
كاتب من جنوب السودان
“وهم التفتيح عن الجمال الزائف والعنصرية الخفية”!
في العقود الأخيرة، تفشت في العديد من المجتمعات الإفريقية والعربية ظاهرة استخدام كريمات تفتيح البشرة، خاصة بين النساء. وعلى الرغم من أن الظاهرة تبدو للبعض مجرد خيار تجميلي شخصي، إلا أنها في جوهرها انعكاس واضح لخلل ثقافي عميق، له جذور استعمارية وتاريخية، وينطوي على أبعاد نفسية واجتماعية معقدة تستحق النقاش.
تعكس هذه الظاهرة صراعًا داخليًا تعيشه المرأة في المجتمعات التي تعاني من ضعف في تمثيل الذات، وغياب نموذج جمالي محلي مستقل. فالجمال، بدلاً من أن يكون تجربة شخصية نابعة من القبول الذاتي، بات يقاس بمعايير غربية أو إعلامية فرضتها الإعلانات ومواقع التواصل.لم تعد البشرة الداكنة مقبولة كما هي، بل أصبحت تُرى بوصفها “مشكلة” ينبغي تصحيحها.
إن استخدام كريمات تفتيح البشرة لا يمكن فصله عن ثقافة تروّج لمعايير “اللون الفاتح” بوصفه رمزًا للجمال والرقي. وهذا في ذاته شكل من أشكال العنصرية الناعمة، التي تتسلل إلى الأذهان لا عبر التصريحات العدائية، بل من خلال الإعلانات والبرامج والأفلام التي لا تُبرز إلا النموذج الأبيض أو المقارب للبياض.
بعيدًا عن الأبعاد الثقافية، يسبب الاستخدام المفرط وغير الخاضع للرقابة لكريمات التفتيح، أضرارًا صحية بالغة، تتراوح بين حساسية الجلد، وظهور البقع الداكنة، إلى الإصابة بسرطان الجلد نتيجة المواد الكيميائية السامة مثل الزئبق والهيدروكينون. لكن الأخطر من ذلك هو الضرر النفسي؛ إذ تؤدي هذه الممارسة إلى ضعف الثقة بالنفس، والشعور بالدونية، والاعتماد على القناع التجميلي لتقبل الذات.
لا يمكن تناول هذه القضية دون الإشارة إلى الإرث الاستعماري الذي ربط بين لون البشرة والسلطة. ففي كثير من البلدان المستعمَرة سابقًا، أصبح البياض رمزًا للتفوق، والسواد مرادفًا للتخلف أو الهمجية. لقد تم تكريس هذا التصنيف اللوني داخل اللاوعي الجمعي، ليغدو مع الزمن معيارًا غير منطوق للنجاح والقبول.
المطلوب اليوم ليس الهجوم على من يستخدمن كريمات التفتيح، بل العمل على تفكيك المنظومة التي دفعت بهن إلى هذا الخيار. لا بد من استعادة تعريف الجمال من سلطة السوق والموضة، وتقديم نماذج إعلامية تحتفي بالتنوع اللوني والثقافي، وتمنح المرأة مساحة للانتماء إلى ذاتها دون شعور بالخجل أو النقص.
فالجمال الحقيقي لا يقاس بلون البشرة، بل بهوية الإنسان، وصدقه، ونظافته النفسية. والمجتمع الذي يحترم أفراده كما هم، دون الحاجة إلى تعديل الشكل الخارجي ليتناسب مع “قالب ما”، هو مجتمع يضع أساسًا حقيقيًا للحرية والعدالة.
كريمات تفتيح البشرة ليست مجرد منتجات تجميل، بل مرآة تعكس عطبًا ثقافيًا يحتاج إلى إصلاح. وحين تعود المرأة لتفتخر بلونها الطبيعي، وتؤمن أن جمالها لا يُختصر في درجة اللون، ستكون قد فتحت ثقبًا في جدار ثقافة الوهم، وبدأت أولى خطواتها نحو التحرر.
Leave a Reply