تسقط.. تسقط والقصة لم تنته بعد

بقلم: د. أشرف مبارك أحمد صالح

قضى كل عمره في بناء هذه الدولة. بناها قشة قشة وطوبة طوبة. ثلاثة عقود كاملة وهو يصعد في السقالة وينزل حاملاُ صحن المونة حتى إنه في مرة انكب على وجهه فكسر سنه. إيه.. عمر! نشأت دول وانهدت دول، جاء رؤساء وملوك وذهب رؤساء وملوك. وولد جيل وجيل ومضى وأفضى إلى ما أفضى، جيل سبق وهو على رأس الدولة.
كاد صرحه أن يناطح السحاب، لا بل جاوز القمر وجاور الثريا. انتقل من حال إلى حال ومن مفلس إلى صاحب مال وضياع، ولا تسألن عن السبب. كان يقول دائمًا: “الدولة ليست مجرد أرض أو جدران، بل هي فكرة تنبض بالحياة”، وكان يؤمن بأن هذا الصرح الذي شيده بيديه لن يسقط ولو اجتمعت عليه العواصف. لأن هذا الصرح مبني على هذه الفكرة. ولا ضير إن أخذ من الناس وعضد بناءه، وسلب حيوات وثبت أركانه. والحقيقة أنه جعلهم سخرة لبسط ليرى أن الأساس قد ضعف.
وفي أحد الأيام، بينما كان يجلس في أعلى البرج، ينظر من النافذة إلى الشوارع والميادين، قال متسائلاُ: “أفيها غيري ؟”، سمع هتافًا بعيدًا. بدأ الهتاف ضعيفًا في البداية، لكنه سرعان ما ازداد قوة. “تسقط.. تسقط!” كانت الكلمات تتردد كأنها أمواج البحر تضرب صخرة بلا هوادة. حاول أن يتجاهلها، لكنها كانت تتسلل إليه كالسم في الدم.
نزل مسرعًا ليتفقد الصرح. أمسك بأركانه بكلتي يديه، حاول أن يحيطه بذراعيه، وكأنه حمايته من السقوط. قال لنفسه: “هذا الصرح ليس مجرد بناء، إنه عمري، إنه روحي”. أحاطه بكل قوته، تخيل أنه يستطيع أن يحميه من الحساد والمندسين الذين هم كالسوس ينخر في هذا البناء. لكن عندما نظر حوله، اكتشف أنه لم يحتضن سوى الهواء.
ثلاثة عقود، وكل ما تبقى هو الهواء؟
خرج ليشاهد البشر يملأون الميادين. الآلاف، لا بل الملايين يرفعون أصواتهم ويصرخون: “تسقط.. تسقط.. تسقط!”
الهتاف مستمر، لا يتوقف. شعر بالبرد يتسلل إلى عظامه. لم يكن يعرف كيف، أو ماذا يقول. هل كانوا يقصدون الصرح نفسه؟ أم من بناه أم الفكرة؟ كل هؤلاء الحساد؟
عاد إلى الداخل، جلس على كرسيه، وضع رأسه بين يديه. كان يفكر في كل يوم قضاه هنا، في كل خطوة صعد بها السقالة، في كل قطرة عرق سقطت منه. هل كان ذلك كله هباء؟ وهل كان يمكن أن يكون هناك مصير آخر؟ الأسئلة لم تنته هنا. هل كان هذا الهتاف نهاية الصرح؟ أم بداية شيء جديد؟ وهل كان يمكن أن يُبنى الصرح بطريقة أخرى بحيث لا ينهار عند أول زلزال؟ في تلك اللحظة، دخل شخص ما الغرفة. كان الشاب الذي كان يومًا ما صغيرًا يلعب في حدائق الصرح، واليوم أصبح كبيرًا يحمل في عينيه أسئلة. نظر الشاب إليه وقال بصوت هاديء ولكنه ثابت: “لقد حان الوقت لتختار. هل ستظل تحتضن الهواء؟ أم ستساعدنا في بناء شيء جديد؟ ” “أما ربيناك فينا صغيرًا؟”. لم يقل الرجل أكثر من ذلك. فقط نظر إلى الشاب، ثم إلى الخارج حيث كان الهتاف لا يزال يتردد: “تسقط… تسقط…”
والقصة لم تنته بعد.
#سيرة_الإنسان_حين_يصارع_الأوغاد

13 فبراير 2019

Be the first to comment

Leave a Reply

Your email address will not be published.