
بقلم: أحمد محمود أحمد
#ملف_الهدف_الثقافي
هل من الممكن أن تدخل مفردات مثل (فتق أو متق) إلى مجال الثقافة السودانية وتبقى متصدرة المشهد ويرددها البعض دون مساءلة، دلالاتها أو معانيها؟ فهل وصلت تداعيات الحرب أن يكون المهوسون والدجالون والكذبة هم سدرة منتهى الوعي وصناع الثقافة؟ إنها أسئلة تجيب على تردي مضامين الحياة نفسها ومعها الثقافة حيث تجترح الحرب الدائرة اليوم في السودان اتجاها جديدًا يمكن أن نطلق عليه وعي ثقافة الحرب، الذي بدأ يتغلغل في الوعي الجمعي السوداني، وتتشكل من خلال ذلك لغة جديدة مشبعة بالعنف وتستقي نسقها المعرفي من خطابات الحرب المبثوثة عبر وسائط التواصل الاجتماعي.. وضمن تصنيف عام فإن أخطر ما ينتج عن الحرب يتصل بتاَكل النسيج الاجتماعي وانتشار ثقافة العنف والكراهية وبروز العنصرية، وفي ظل هكذا واقع يضمحل المعنى الإنساني وتتراجع قيم الاحترام والتسامح بين الناس وكذلك يضمحل الإبداع وعلى كل الأصعدة ويدخل المبدعون في شرنقة الذات والاختفاء من المشهد العام وتترك الساحة لسدنة القوى المتورطة في الحرب وهي قوى في أغلبها قوى سطحية وتجيد تصدير اللغة الهابطة ونحت المفردات التي تتوافق مع القتل ونحر الآخر ..وفي حين كان الفضاء السوداني وبعد ثورة ديسمبر يتشكل أفقه عبر لغة تشتغل على تأطير معنى الوجود الإنساني ضمن جمالياته المستطبنة، الذي يتماهى مع استمرارية ذوات الأفراد نحو التأسيس لحيز زماني ومكاني يتم فيه نفي القبح، وتلتقي هذه الذوات في قارعة الطريق من أجل صناعة الأمل باتجاه بناء حياة جديدة وسودان جديد، وكانت هذه الثقافة المرتبطة بالمعنى تنسحب إيجابًا نحو مجتمع أرهقته تفاصيل الحياة ولكنه كان يمتلك القدرة على النهوض وجاءت الحرب لتقعده ليتفرج على القنابل والمسيرات ويستمع إلى خطابات الانصرافي ويشاهد عروض ندى القلعة وقونات الزمن العجيب النائحات بغناء الحرب وقدلة البرهان فوق دماء السودانيين، الذي يؤكد أن المجد للبندقية وليس المجد للثورة ولا للثوار… هكذا تنتج الحرب خطاب العتمة، الذين يتسيدون فيها هم المسرفون في إراقة الدماء والمبتسرون الذين وبحكم البيولوجيا جاءوا ليشوهوا حياة الناس ويهدمون مشروع ثقافة الحياة لإقامة مشروع ثقافة الموت، ولهذا يتحول الذبح إلى طقس يتفرج عليه السودانيون وكأنه مشهدًا سينمائيًا ويتحول سحل الناس على الطرقات والدماء تقطر منهم إلى لوحة قاتمة تلغي لوحة الفنان التشكيلي، الذي قتلته الحرب وفقد ريشتة، التي سقطت للتحول إلى بندقية في يد صبي قد دخل أول مدرسة له وهي مدرسة البراء ابن مالك أو كتيبة دقلو ابن دقلو، وهكذا فنحن نخرج من ثقافة الثورة إلى ثقافة كشف العورة والقتل على الهوية، ونخرج من ثقافة الميادين إلى ثقافة العزلة ومن شعار سودانا فوق إلى واقع أن هذا السودان قد يراد له أن يدفن تحت الأرض ليدفن الإنسان أولاً ومعه الأمنيات والأحلام العريضة، هكذا يفعل صناع الحرب وما الحرب إلا ما علمنا وما لم نعلم وقد صار القتل هو العنوان، الذي تطالعنا به كتائب الدم العابرة لجسد الإنسان إلى روحه وتصدير ثقافة الموت بكونها سلعة قد صنعت في مصانع علي كرتي والبرهان وجرى تطويرها عبر مسيرات اَل دقلو ليتلون فضاء السودان بخارطة الدماء ورائحة الموت.. لقد شاهدت فيديو تمثيلي لشخص افترض نفسه أنه يدرس لأطفال ووضع أمامهم الحروف وطلب منهم أن يرددوا خلفه منطوق الحروف فكان يقول لهم الحروف وهم يرددون خلفه كالآتي: حرف الميم ( ما متق) وحرف الفا (فا فتق) وحرف السين( سا ساخوي) وحرف الحا( ح حرب) وهكذا لخص صاحب هذا الفيديو الذكي مأساة الأجيال ومأساة السودانيين اليوم حيث تفرض الحرب ثقافة جديدة عنوانها ( بل بس ) و(جغم بس) و( أكسح و أمسح) ومع هذه اللغة تضيع ثقافة الإنسان السوداني ويبقى الفراغ، ويبقى هؤلاء الذين أعدموا لغة الحياة من أجل تشييد لغة الموت..
Leave a Reply