
بقلم:د. أحمد الليثي
في خضمّ المأساة السودانية المتواصلة، تتسلل كارثة صامتة إلى وجداننا: كارثة التكيّف مع الفظاعة. حين تصبح المجازر مجرد أرقام، والدمار مشهدًا عاديًا، يكون الخطر الحقيقي قد بدأ: خطر موت الضمير الجماعي، وتحوّل الإنسان إلى كائن يتعايش مع القبح دون مقاومة. إنه الموت البطيء الذي يتهددنا جميعًا، لا بالسلاح، بل بالاعتياد.
لم تعد الفظاعات في السودان مفاجئة، بل متوقعة. الجثث المتناثرة في الطرقات، أصوات القصف التي تصحب اليقظة والنوم، نزوح الملايين في صمت، صرخات النساء في ظلال الجرائم، صمت العالم، وصمتنا الأكبر.
مشاهد كانت لتقلب العالم رأسًا على عقب، أصبحت هنا جزءًا من اليومي، من العادي، من الممكن التعايش معه.
وهذا التعايش هو الجريمة الكبرى. لأنه لا يُعبّر عن قوة التحمل، بل عن انسحاب الضمير. التعود على الفظاعة لا يعني تجاوزها، بل يعني القبول بها، وتحويلها إلى جزء من النسيج النفسي للجماعة. وعندما يتحوّل القبح إلى عادة، تنتفي الحاجة إلى تغييره.
في المجتمعات التي تنكسر تحت وطأة الحروب، أو تسحقها أنظمة القمع، يصبح الإنسان معنيًا بالنجاة الفردية فقط. الأخلاق تُؤجل، والكرامة تُحوّل إلى ترف، والضمير يُوضع في حالة “تجميد” حتى إشعار آخر. لكن المأساة أن هذا الإشعار قد لا يأتي أبدًا.
نحن لا نحتاج إلى مزيد من الصور الصادمة، بل إلى قلوب لم تفقد قدرتها على الارتجاف.
لا نحتاج إلى توثيق الفظاعة فقط، بل إلى رفضها في داخلنا، في لغتنا، في ردود أفعالنا، في كتاباتنا، في صمتنا. لأن الفظاعة لا تعيش بالدم وحده، بل بالتعود عليه.
في لحظة ما، لن يُطلب منّا أن نقاوم بالسلاح، بل أن نُحافظ على قلوبنا حيّة. أن نبكي حين يتوقع منا الجفاف. أن نرتجف أمام ما أصبح عاديًا. لأن الإنسان، ما دام يصرخ أمام الظلم، فهو لم يُهزَم بعد. أما حين يصمت، حين يعتاد، حين يتأقلم، فقد سلّم مفاتيح الروح للعدم.
Leave a Reply