الأحزاب القومية.. بين حلم الوحدة وتحديات الواقع

بقلم: محمد شريف

الوحدة العربية كانت دائمًا حلمًا كبيرًا للأحزاب القومية، لكنها واجهت تحديات كبيرة على مر العقود. في منتصف القرن الماضي، كانت الوحدة العربية جزءًا أساسيًا من خطاب الأحزاب القومية، وشهدت محاولات لتحقيقها مثل وحدة مصر وسوريا (الجمهورية العربية المتحدة) وغيرها. لكن مع مرور الوقت، تراجعت هذه الجهود بسبب الهزائم السياسية، والضغوط الخارجية، وتعزيز النزعات القطرية داخل الدول العربية.
اليوم، يبدو أن بعض الأحزاب القومية العربية بدأت في إعادة النظر في أولوياتها، حيث تركز أكثر على القضايا المحلية والتنموية بدلاً من السعي لتحقيق الوحدة العربية الشاملة، وتحقيق مستقبل أفضل للأمة، خاصة بعد ثورات الربيع العربي التي كشفت عن تحديات كبيرة في الفكر القومي. على سبيل المثال، هناك مراجعات نقدية للفكر القومي تشير إلى انقسام التيار القومي بين دعم الاستبداد أو الوقوف مع الثورات الشعبية. كما أن بعض الأحزاب القومية أصبحت تركز أكثر على القضايا المحلية والتنموية بدلاً من السعي لتحقيق الوحدة العربية الشاملة. ومع ذلك، لا تزال الوحدة العربية هي السبيل الوحيد لمواجهة التحديات المشتركة.
عندما تفقد الأحزاب القومية الثقة في قدرة الجماهير على تحقيق التغيير أو دعم الأهداف الكبرى، فإنها تميل إلى التركيز على القضايا التي يفرضها الواقع أو القريبة من متناولها. هذا التراجع عن الإيمان بالجماهير قد يعكس أيضًا إحباطًا من التجارب السابقة التي لم تحقق النتائج المرجوة.
لكن في الوقت نفسه، هناك من يرى أن الجماهير هي القوة الحقيقية للتغيير، وأن استعادة الثقة بها يمكن أن يعيد إحياء المبادئ الأساسية. وكان ذلك واضحاً وجلياً كما جاء في المنطلقات النظرية التي أقرها المؤتمر القومي السادس: “إن حيزًا ضيقاً يفصل بين مفهوم النخبة الفاشستي وبين مفهوم الطليعة الاشتراكي. ففي حين أن مفهوم النخبة ينظر إلى الجماهير على أنها مجرد قطيع منفعل، مما يؤدي عمليًا إلى الانغلاق عن الجماهير والتعالي عليها، وإلى الانزلاق بالضرورة إلى ممارسة ديكتاتورية مباشرة عليها عن طريق الإرهاب تارة أو تشويه الرأي العام وتكييفه وفق رغباتها تارة أخرى، يدعو مفهوم الطليعة الاشتراكي إلى اعتبار الجماهير جوهر الثورة والديمقراطية، ويؤدي إلى انفتاح واعٍ متواضع عليها، يعمق الصلات الحية مع الجماهير، ويدفع بها في النضج عن طريق التفاعل المتبادل الودي الذي يعتبر الجماهير منبع الحكمة ومصدر الثورة. إن حزباً بلا جماهير لا بد أن ينحط إلى عصابة تمارس الطغيان على الجماهير”.
وإن استعادة الإيمان بالجماهير يتطلب استراتيجية شاملة تجمع بين الجوانب الفكرية، التنظيمية، والتواصلية. ومن بين هذه الأدوات التي يمكن أن تسهم في تحقيق ذلك: تعزيز الوعي السياسي والاجتماعي من خلال البرامج والمبادرات التي تُبرز أهمية دور الجماهير في تحقيق التغيير، والتركيز على تثقيف الأفراد بأهمية المبادئ القومية والعمل الجماعي. إن خلق مساحات حقيقية لمشاركة الجماهير في اتخاذ القرار، سواء على المستوى المحلي أو الوطني، وإنشاء منتديات أو مجالس تتيح للأفراد التعبير عن رؤاهم والمساهمة في السياسات العامة، باستخدام وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بشكل ذكي وفعّال لتوصيل الرسائل بشكل شفاف وواضح، مع ضرورة بناء خطاب إيجابي ومُلهِم يُركز على القوة الجماعية بدلًا من النقد السلبي.
من جانب آخر، إن تقديم نماذج حقيقية وملموسة لنجاحات قامت بها الجماهير، سواء على المستوى السياسي، الاقتصادي، أو الاجتماعي، والاستفادة من دروس التاريخ العربي لإبراز قوة الجماهير عندما تتوحد حول هدف مشترك، كما تحقق في نماذج منها: الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي، ثورة 1919 في مصر ضد الاحتلال البريطاني، الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987-1993)، والربيع العربي في العديد من الدول العربية، مثل تونس ومصر، وثورة ديسمبر 2019، كانت الجماهير هي المحرك الأساسي للتغيير السياسي والاجتماعي، حيث طالبت بالحرية والعدالة الاجتماعية.