إنسانيًّا: كَتَمت

بقلم: طارق أبو عكرمة

ليست “كَتَمت” مجرّد مفردة دارجة في اللسان السوداني، بل هي خريطة وجدانية مختصرة لجيلٍ بأكمله؛ جيلٍ تشكّل وعيه على شفا الكارثة، ونضجت أحلامه في مناخ مكتوم، بين ارتطام الطموح بجدران الواقع، وبين حربٍ لا تعترف بالحالمين.
“كَتَمت” ليست سكونًا لغويًا، بل حالة وجودية مكتملة، تعني أن تحبس أنفاسك كي لا يسمعها الرصاص، أن تبتلع غضبك لأنك لا تملك مساحة آمنة لتفريغه، أن تصمت لأن ما يُقال لا يُسمع، وما يُسمع لا يُنقذ.
“كَتَمت” تعني أن تستيقظ كل صباح على سؤال: هل ما زالت المدينة قائمة؟ هل مدرستي هناك؟ هل ما زالت خريطتي تشير إلى مكان اسمه “البيت”؟
تعني أن تنظر إلى أمّك وتخفي عنها انكسارك، أن تمازح إخوتك وأنت ترتجف داخلك من فكرة أن الغد قد لا يأتي.
تعني أن تنحني للحياة، لا استسلامًا، بل حتى لا تُكسر.
ما قبل الحرب، لم يكن المشهد ورديًا، لكنه كان صالحًا للزراعة: زراعة الأمل، الثقة، الحلم، وحتى الوهم الجميل.
آمن شباب السودان أن بوابة المستقبل قد فُتحت، ولو جزئيًا، وأن ثورتهم صنعت فجوة في جدار القهر، تتسلل منها أشعة الإمكانية.
غنّوا، كتبوا، صرخوا، مشوا في الشوارع وقلوبهم مملوءة بالمجازفة والإيمان.
لم يكونوا سذجًا، بل كانوا مشحونين بإرث المقاومة. لكن الحرب باغتت الزمن.
الحرب لم تقصف البيوت فقط، بل قصفت إيقاع الحياة، مزّقت الذاكرة الجمعية، سرقت الحكايات من الأرصفة،
وجعلت من كل شاب مشروع لاجئ، ومن كل طموح مشروع خسارة.
لم تعد الجامعات أبوابًا للعلم، بل أبوابًا موصدة بالرماد.
المقهى صار حلمًا مكلفًا، والضحك امتيازًا عزيزًا.
حتى الصمت غدا لغة عامة، حتى التنفس بات خاضعًا للريبة.
لكننا لم نَصمت لأننا عاجزون، بل لأن ما نعيشه لا يسعفه التعبير.
ما لا يُقال يظل الأعمق.
كتمنا لأننا نعلم أن الانفجار لن يُثمر، وأن البقاء نفسه معركة.
لكن خلف هذا الصمت، هناك احتياطي من الحكايات، من الأمل المكبوت، من الغضب المؤجّل، ينتظر لحظة انبثاق.
وليس الكتم قطيعةً مع المعنى، بل هو تراكم صامت للمعنى ذاته.
إن ما كتمه هذا الجيل، يمكن أن يتحول يومًا إلى بيان ثوري، إلى موجة تغيير، إلى معجمٍ جديد للحرية.
كل فتى يضمد أخاه في صمت، كل فتاة تخبئ دمعها لتربّي أملاً، كل أمّ تتنازل عن وجبتها لتمنح ولدها كتابًا،
هم جميعًا يكتبون رواية الوطن كما ينبغي أن تُكتب.

كَتَمت، لكنها ليست استقالة من الحياة.
بل خلوة ما قبل الانبثاق. عزلة النبتة في التربة قبل أن تشق الأرض نحو النور.
ففي جوف الكَتَمة، يختبئ بركانٌ من عزيمة، لا يريد أن يحرق، بل أن يُنير.
والجيل الذي احتمل أن يرى وطنه يُسرق منه حيًّا، قادر على أن يعيد كتابته في صيغة المستقبل.
كَتَمت، نعم.
لكن هذه ليست نهايتنا، بل بدايتنا المؤجلة.