
في بلدٍ أنهكته الحروب والانقلابات، وتآكلت فيه مفاهيم السياسة والعدالة حتى اختلط فيها القاتل بالضحية، أصبحت للأوهام أجنحة، وللأشباح أسماء، وللمخاوف جذور. لا أدري متى بدأ الأمر، لكن ما أعلمه جيدًا أنني صرت أرتجف كلما رأيت صورة أحد رموز النظام البائد أو قرأت تصريحًا سياسيًا مصقولًا بعبارات “الحياد” و”اللا انحياز”.
قالوا لي إنني أعاني من “الكيزانوفوبيا”، مرض متخيّل سببه تراكم مشاهد القهر والفساد والتمكين، لكنني أصرّ: هذه ليست فوبيا… هذه تجربة حيّة، مزروعة في الذاكرة الوطنية، تطل برأسها في نشرات الأخبار، وفي القرارات المفاجئة، وفي أحلامنا المزعجة.
أحيانًا، يخيل لي أن علي كرتي جالس خلف البرهان في كل مؤتمر صحفي، يحرك شفتيه هامسًا “رجّع لينا فلان”، وأحيانًا أرى البشير وهو يضحك، يغيّر القنوات بين قاعة الصداقة ومنبر جدة، ويقول لنا من على بعد “لسّا بدري عليكم”.
ما نعيشه ليس فقط عودة رمزية لوجوه سابقة؛ بل استعادة منهج، وخطاب، وتكتيك. فالسلطة لا تحتاج إلى زي رسمي أو شعار حزبي، يكفيها إعادة تعيينات، وتطويع مؤسسات، وفتح المجال للتصالح مع الماضي دون محاسبة. هذا هو “التطبيع مع التمكين”.
تطل الكيزانوفوبيا اليوم ليس كمرض عصابي، بل كأداة تحذير شعبية من محاولات التسلل السياسي عبر نوافذ الإنكار. في كل منبر سلام، وفي كل لجنة تفاوض، وفي كل جهاز إداري “يتم تنظيفه”، يعود الحرس القديم بأسماء جديدة، ولغة تصالحية، لكن بأجندة لا تزال قديمة.
الخطورة لا تكمن في الكيزان وحدهم، بل في من يعيد دمجهم دون شروط أو مساءلة. الخطورة في تحالفات السلطة التي تتساهل مع من دمّر البلاد باسم الدين، وتتحاشى تسمية الأشياء بأسمائها، فتضع الشارع بين خيارين: النسيان، أو الجنون.
صحيح أن “الكيزانوفوبيا” لا توجد في قاموس الطب، لكنها موجودة في الذاكرة، في البيوت التي شُرّدت، في الوظائف التي أُقصيت، في الحروب التي أُشعلت، في الاقتصاد الذي نُهب، وفي الدولة التي تحولت إلى جهاز خدمة حزبية.
إن العلاج لا يكون في عيادات نفسية، بل في وضوح المواقف. في حسم العلاقة مع نظام الثلاثين عامًا، لا بعبارات فضفاضة، بل بقرارات واضحة. في تمييز من يعمل لصالح الوطن ممن يعمل لاستعادة امتيازاته القديمة.
في النهاية، أخشى أننا لسنا فقط نخاف من “أشباح الكيزان”، بل نعيش في حكومة أشباح، لا تُرى فيها النوايا بوضوح، ولا يُعرف من يحكم فعلاً. فهل الكيزانوفوبيا مرض، أم استشعار مبكر بالعودة المقنّعة؟ لعل الأيام القادمة تجيب.