القرن الأفريقي بين التنمية والبارود.. تحالفات جديدة على خريطة مضطربة

بقلم: عبد الغني دياب

شهدت الأسابيع الأخيرة تفاعلات متصاعدة مرتبطة بمنطقة القرن الأفريقي، فتزامنًا مع تصاعد حركة الصراعات المسلحة في دول المنطقة، احتضنت العاصمة الأوغندية، كمبالا، القمة غير العادية للدول المساهمة بقوات في بعثة الاتحاد الأفريقي للدعم والاستقرار في الصومال (AUSSOM)، وسبقها بيوم واحد زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لجيبوتي، والتي وقّع خلالها اتفاقيات أمنية واقتصادية مع نظيره إسماعيل جيلة.

فتحت القمة والزيارة تساؤلات حول إعادة رسم خريطة التفاعلات، وإعادة بناء التحالفات، وكذلك مستقبل الاستقرار في المنطقة التي تشهد صراعات دموية؛ إذ تدخل الحرب السودانية الأهلية عامها الثاني، بينما تتصاعد التوترات في جنوب السودان، وتعيش إثيوبيا أجواء متوترة بسبب الاضطرابات الأخيرة في إقليم تيغراي، ويقابل ذلك حضور مصري في بعض الملفات الأمنية والاقتصادية، حيث شهدت الفترة الأخيرة تقاربات بين القاهرة وثلاث دول في القرن الأفريقي، هي: إريتريا، الصومال، وجيبوتي.

ما بين جيبوتي وكمبالا
في جيبوتي، تظهر التحركات المصرية سعي القاهرة هذه المرة لربط مصالحها بدول القرن الأفريقي، من خلال تعزيز الحضور الاقتصادي والأمني، إذ يشير البيان المشترك الصادر عن الدولتين إلى توقيع اتفاقيات متعددة في مجالات “الطاقة، والتدريب، والتعاون العسكري، والتعليم، والشباب، والإعلام”.

في المقابل، ناقشت القمة التي حضرها ممثلون عن “جيبوتي، إثيوبيا، مصر، كينيا، أوغندا، الصومال، الاتحاد الأفريقي، والمنظمات متعددة الأطراف”، جهود مكافحة الإرهاب والتمرد في الصومال، ووجّهت قادة جيوش الدول المشاركة بإعداد خطة شاملة لردع وتفكيك وإنهاء خطر حركة الشباب، مع التأكيد على زيادة عدد قوات AUSSOM، لتعزيز المكاسب الأمنية المتحققة، ودعم جهود الحكومة الصومالية في تحقيق الاستقرار.

وأقرت القمة، التي استمرت لثلاثة أيام، بوجود ثغرات أمنية سمحت بعودة ظهور حركة الشباب، وسيطرتها على مناطق واسعة في كل من شبيلي الوسطى والسفلى، كما تتعرض مناطق جوهر ومقديشو لتهديد وشيك.

عسكرة الصومال وحرب النفوذ
الثغرات سالفة الذكر دفعت المشاركين للمطالبة بإرسال 8000 جندي يُضافون إلى 11,146 جنديًا يشكّلون قوام البعثة الحالية، كما فتحت القمة الباب لدخول قوات من خارج إطار البعثة عبر الاتفاقيات الثنائية، ما قد يحوّل البلاد إلى سوق عسكري تنافسي بين الدول. ومن المتوقع أن تساهم تركيا بقوات هي الأخرى، حيث تمتلك أنقرة قاعدة عسكرية في البلاد، ولديها علاقات عسكرية متطورة مع مقديشو. كما توجد هناك قوات إثيوبية تعمل وفق اتفاقيات ثنائية بين الدولتين، بعيدًا عن عمل البعثة.

يعزز المخاوف المتعلقة بتحوّل الصومال إلى سوق كبير للتنافس العسكري الإقليمي، رغبة دولة بوروندي في زيادة عدد مقاتليها المشاركين في البعثة القارية بالصومال إلى ألفي جندي، في حين طلبت مقديشو ألا يتعدى عددهم ألفًا واحدًا، وهو ما اعتبرته غيتغا تقليلًا من دورها، وتستعد لسحب قواتها من البلاد، ما يثير مخاوف من أن تمثل هذه الخطوة تحديًا جديدًا للقوات العاملة هناك، والتي تطالب الدول المشاركة في البعثة بزيادتها.

ووسط هذه التعقيدات، تصطدم بعثة AUSSOM، التي تأسست في يناير/ كانون الثاني 2025 كخليفة لبعثة ATMIS، بتحدٍّ جديد يتمثل في التمويل، حيث تحتاج البعثة إلى 60 مليون دولار لتمويل أنشطتها لمدة أربعة أشهر فقط، كما يوجد عجز قائم بالفعل بـ96 مليون دولار أمريكي مخصص لنظام إدارة عمليات حفظ السلام (ATMIS)، وهي البعثة السابقة للأمم المتحدة في الصومال.

إعادة رسم خريطة التفاعلات الإقليمية
يعد البعض هذه التفاعلات، والتي يأتي في ذروتها الدور المصري المتنامي في منطقة القرن الأفريقي، ضمن محاولات إعادة رسم خريطة التحالفات في المنطقة. إذ يرى الباحث المصري حمدي عبد الرحمن، في ورقة بحثية له نُشرت إبان زيارة السيسي الأولى لجيبوتي في مايو 2021، أن المنطقة تشهد إعادة رسم خريطة التفاعلات الاستراتيجية، لافتًا إلى أن التحركات المصرية ليست قاصرة على مسألة سد النهضة الإثيوبي، وإنما هي أعمق وأبعد من ذلك.

تلتقي هذه التحليلات مع زيادة الحضور المصري في المنطقة خلال العام الماضي، والذي تجلّى بشكل واضح في إعلان كل من القاهرة وأسمرة ومقديشو بيانًا مشتركًا في أكتوبر/ تشرين الأول 2024، أسّس لعلاقات تعاونية بين البلدان الثلاثة في ملفات سياسية وأمنية واقتصادية، تبعه توقيع القاهرة ومقديشو اتفاقًا في يناير/ كانون الثاني الماضي يهدف إلى تعزيز التعاون السياسي والعسكري بينهما، واختُتم بزيارة السيسي إلى العاصمة جيبوتي نهاية أبريل/ نيسان الجاري، بالإضافة إلى تدخلات القاهرة في الأزمة السودانية ورعايتها في السابق لجهود التفاوض بين طرفي النزاع.

تتزامن هذه التحركات مع مساعي إثيوبيا، أكبر منافس إقليمي لمصر في شرق القارة، لامتلاك منفذ بحري على البحر الأحمر، وكان آخر هذه المحاولات الاتفاق الذي وقّعته أديس أبابا مع صوماليلاند، المتمتعة بحكم ذاتي، والذي تسبب في توتر العلاقات بين إثيوبيا وبعض دول القرن الأفريقي، في مقدّمتها الصومال، والتي أقدمت على طرد السفير الإثيوبي احتجاجًا على هذا الاتفاق.

في محاولة لرأب الصدع، تدخلت تركيا التي تتمتع هي الأخرى بنفوذ واسع في القرن الأفريقي، حيث أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في ديسمبر/ كانون الأول 2024، أن الصومال وإثيوبيا توصّلتا إلى اتفاق “تاريخي” ينهي التوترات بين البلدين.

تفاعلات يعتبرها الباحث الإثيوبي، إندالكاتشو بايه، انقلابًا واضحًا في شكل التحالفات الإقليمية في منطقة القرن الأفريقي، فحلفاء الأمس أضحوا الآن فرقاء، ويسعون لتشكيل تحالفات جديدة تختلف تمامًا عما كان الوضع عليه في السابق.

كما يُذكر أن إثيوبيا وإريتريا، التي تحالفتا في الحرب التي شنتها الأولى على جبهة تيغراي والتي اندلعت في 2020، يقتربان حاليًا من العودة إلى نزاعهما القديم، حيث تصطف أسمرة مع القاهرة في بعض الملفات، على غير رغبة أديس أبابا. وفي المقابل، تجدّد التوتر بين مصر وإثيوبيا إثر التقارب المصري الصومالي، فعلى الرغم من التحالف السابق بين مقديشو وأديس أبابا في ملف مكافحة الإرهاب، لا سيما أنشطة حركة الشباب، إلا أن السلوك الإثيوبي في حوض النيل والقرن الأفريقي دفع القاهرة ومقديشو لإعلان تحالف عسكري بينهما، كرد فعل على توقيع إثيوبيا اتفاقية مع أرض الصومال، وهو ما يعني تشكيل تحالف جديد أيضًا.

إن العلاقات بين جيبوتي وصوماليلاند تشهد توترًا أيضًا، حسب ذات الباحث، بسبب الاتفاقية السالفة الذكر، الذي يشير إلى أن مصر تطمح إلى عرقلة استخدام إثيوبيا للمياه، وهو ما قد يضر بمصالحها، بينما ترى إثيوبيا في وجود مصر على حدودها تهديدًا أمنيًا مباشرًا لها.

يتخوف كثير من الباحثين من أن تكون التفاعلات الجديدة بداية لكثير من المتاعب في منطقة القرن الأفريقي، حيث من المتوقع أن تتحول بعض مناطق الصومال تحديدًا إلى ساحة تنافس بالوكالة بين كل من مصر وإثيوبيا، ويُضاف إليهما دول إقليمية أخرى، من بينها تركيا وإيران ودول مجلس التعاون الخليجي، قد تدخل على خط التنافس الإقليمي في المنطقة، وهو ما يمثل تهديدًا لاستقرار المنطقة المشتعلة بالفعل بصراعات معقدة.

كل هذه التفاعلات تفتح الباب أمام تساؤلات معقدة، ربما ستجيب عنها تفاعلات الأحداث خلال الفترة المقبلة، فهل تقود التحالفات الجديدة إلى منطقة أكثر استقرارًا في ظل موازين قوى جديدة تتشكّل على الأرض؟ أم تفتح أهوالًا من المتاعب لسكان هذه البقعة الجغرافية التي لم ترَ الاستقرار منذ سنوات، بعدما تحوّل الموقع والموارد إلى لعنة جلبت عليهم أطماعًا دولية وطموحات إقليمية بالسيطرة وبسط النفوذ، بدلًا من أن تجلب الاستقرار والتنمية؟