
قررتُ السفر من ولاية نهر النيل إلى أم درمان، وصولًا إلى محلية أم بدة، حيث تركتُ منزل الأسرة بعد ثلاثة أشهر من اندلاع الحرب يوم 15 أبريل. وقد سمعتُ عبر أجهزة الإعلام الرسمية عن “نظافة أم بدة” ونداء العودة، فحملتُ حقيبة صغيرة وضعتُ فيها بعض (الغيارات)، ونسقتُ مع بعض الأصدقاء للسفر كوفد استطلاعي استكشافي، يُقرِّر بعده أهلنا تجهيز حقائب العودة إلى الديار.
بمجرد خروجنا بسيارة خاصة (بوكس) وتجاوز مدينة شندي جنوبًا، بدت لنا معالم الأرض مختلفة، وما إن اقتربنا من الجيلي حتى أصابنا نوع من اليأس، وقد ظهرت المصفاة من بعيد كتلًا سوداء من أثر الحريق الناتج عن القصف والمواجهات العسكرية.
بحري موحشة. أشجار (البروس) تسد الشوارع ومداخل بعض المنازل، التي تبدو خالية إلا من حركة خفيفة تزداد كلما توغلنا وسط المدينة. الدمار، السيارات المحروقة والمنهوبة، تملأ الطرقات، وبعض المسروقات مبعثرة خارج المنازل. كبري شمبات يشهد على معارك ضارية دارت بين ضفتيه. منزل الزعيم الأزهري، في ناصيته، يرتدي ثوب حداده الأبيض، وقد لطخت جدرانه شعارات الحرب ووقع الرصاص على واجهته.
أما إذا نظرت يمينك نحو بيت المال وود نوباوي، فسُرعان ما تضع يديك على رأسك، مرددًا: “لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم”، ولربما تغمض عينيك طويلًا لتتجاوز مشهد دمار يفوق طاقة الاحتمال.
في شارع الدكاترة شمال مستشفى أم درمان التعليمي، يطغى شعور الوحشة. أبواب الصيدليات محطمة، والعيادات والمحال منهوبة، وميدان البوستة تحوّل إلى مكب للنفايات. الحرائق تمتد بين المحال التجارية والمباني المهدمة، بفعل القصف العنيف جوًا أو برًا.
كلما تقدمنا، قابلنا ارتكازات للجيش أو مسلحين بملابس مدنية وعسكرية مختلطة. عليك فقط أن تبتسم وتُظهر هويتك، وتلتزم بالأوامر لتيسير مرورك. شارع الأربعين، الذي شهد أعنف المعارك، لم أدخله، لكن نظرة واحدة تكفي لتُحزن قلبك على منازله المهدمة، وجدرانها التي نخرها رصاص طائش. واجهات المحال والمنازل في الأربعين والعرضة، كلها تعرضت للنهب، الأبواب مشرعة، والمسروقات مهملة على الطرقات.
مشهد كبري ود البشير مفجع، وقد تعرض للقصف أكثر من مرة. وبحسب مشاهداتي، فإن أم بدة هي الأكثر تضررًا من النهب. الأثاث والأجهزة المنزلية متناثرة خارج المنازل، بانتظار وسيلة نقل. انعدام المواصلات أخّر تهريب ما تبقّى، بينما الشرطة، قليلة العدد والعدة، لا تستطيع مجابهة عصابات النهب المسلح.
في أم بدة، يساورك القلق عند كل نقطة تفتيش للجيش: تدقيق الهويات، أسئلة عن السكن، تفتيش الشنط، وتحذيرات من الصعود إلى الأسطح العالية. وعندما اقتربتُ من حلتنا، لاحظت أن كثيرًا من المنازل بلا أسقف، خاصة (الزنكي). أبواب الشوارع الكبيرة منهوبة، وألواح الزنك مفككة داخل المنازل وخارجها بانتظار الترحيل. مضخات المياه، الثلاجات، المبردات، كلها مهملة. الأشجار والحشائش تسد المداخل، والملابس القديمة والأتربة تملأ الزوايا.
أمام منزلنا… لم أجد باب الشارع!
الغرف خالية، إلا من أوراق ممزقة وأحذية بالية. السقف مسروق. بعض كراسي البلاستيك مكسورة، ومروحة سقف يتيمة تُركت وحدها كأنما تنتظرني لتواسيني. حاولت التقاط الصور لأرسلها للأسرة، لكنني عدلت عن ذلك، حتى لا أزيدهم حزنًا.
خرجت أبحث عن هواء نقي، فوجدت لصوص المنازل – نساء، رجال، أطفال – يمارسون “عملهم” على مرأى الجميع، بينما نحن أوقفنا مرات عديدة. بعضهم يرتدي زي القوات المسلحة ويحمل أسلحة. إذا حاولت اعتراضهم، يأمرونك بدخول منزلك وإغلاق الباب عليك.
لا ماء، لا كهرباء، لا أمن، ولا أمان. لا متاجر تعمل. بعض الأحياء طُلب من سكانها المغادرة، لقربها من مواقع تمركز قوات الدعم السريع، خوفًا من اندلاع المعارك مجددًا.
أم بدة ما تزال في محنتها العظيمة. أغلب البيوت خالية. جئت بالأمس، وسأنتظر صباح الغد لأغادر إلى ولاية نهر النيل، فلا سقف يحميني من شمس ولا مطر، ولا خدمات حياة، ولا أمل قريب. أم بدة ما تزال تحت رحمة “الشفشافة”.
سأوصي أهلي ألّا يستجيبوا لنداء العودة الطوعية، ولن أنصح أحدًا بالرجوع.
وحتى صباح الغد، سأظل أردد بحسرة، أنا الذي فقد كل شيء:
“رحلت وجيت في قربك، لقيت كل الأرض منفى”.