
من الملاحظ أن التلازم بين تأسيس الدولة القومية وبلورة الشعور القومي وعملية الاستقلال القومي في السودان تواكبه ظواهر عديدة، حيث كان لعدم الاستقرار السياسي في السودان نتيجة الانقلابات العسكرية آثارٌ سلبية على عملية بناء المجتمع القومي في السودان.
والمتتبع لتطور الفكر القومي يجد أن وصف المفكر ميشيل عفلق للقومية بأنها [مبعث النظريات ومرضعة الفكر، وأنها كيان تاريخي حي قائم بذاته خارج نطاق التنظير، ووجودها لا يحتاج إلى إثبات أو برهان، وإنما يحتاج إلى تمثيل ونضال] ليس سوى تجسيد للاستقلال القومي، حيث يدعونا المفكر بهذا الوصف للوقوف عند آلية التمثيل والنضال في إطار الولاء القومي، وهو أمر يفتح الأبواب أمام الكثير من التساؤلات الفكرية عن كينونة الكيان الحي، وكينونة الأمة إذا كانت هي التي تمثل وتجسد القيمة القومية.
وإذا كانت الأمة تشير في معناها للقومية من سياق مدلولها اللغوي والاصطلاحي بأنها مفردة عربية تعني المجتمع، وتتميز عن الشعب بأنها ذات أصول مشتركة مثل التواجد داخل حدود جغرافية محددة، ووحدة التاريخ واللغة وغيرها من الروابط المشتركة، فهذا يعني أن الأصول المشتركة هي التي تميز الأمة عن الشعب.
والمتتبع لاستخدام كلمة (أمة) خلال العصور التاريخية يجد أن لها تعريفات مختلفة، خاضعة للتنظير، ووجودها يحتاج إلى إثبات وبرهان، على غير وصف المفكر ميشيل عفلق لها بأنها كيان تاريخي حي لا يحتاج إلى إثبات أو برهان.
فمثلًا، في العصور الوسطى كانت مفردة (أمة) تعني مجموعة من الناس ينتمون إلى إقليم أو دولة واحدة، وفي القرن التاسع عشر في فرنسا استخدمت كلمة (أمة) بمعنى شعب دولة معينة، وفي التاريخ المعاصر عندما شكَّل التنظير السياسي المحور المركزي أصبحت كلمة (أمة) تعبر عن مجموعة بشرية ترتبط فيما بينها بروابط مشتركة ويكون الولاء للجماعة فوق أي ولاءات أخرى….. وبتطور مفاهيم الفقه السياسي أصبحت كلمة (أمة) مرادفًا لكلمة (الدولة) ذات الوصف السيادي، ونتج عن ذلك ما يُعرف بالدولة القومية.
والسؤال: هل مفهوم القومية بهذا الوصف يتفق أم يتعارض مع فكر ميشيل عفلق؟؟ وإذا كان يتعارض، فما هي القومية التي يتحدث عنها المفكر ميشيل عفلق؟؟؟
وهو أمر يدعونا لأن نتتبع مسار التطور الفكري لمفهوم القومية، لنتمكن من تحديد الوصف الفكري للمفهوم عند المفكر عفلق بأن القومية كيان قائم بذاته، وليست تصورًا يقوم ويتوقف على الشروط.
ففي عصر النهضة في أوروبا اختلف المفكرون حول شروط تكوين الأمة مثل ستيوارت ميل الذي صوَّر الأمة بأنها (قسم من البشرية وَحَّدَت بينهم العاطفة المشتركة بحيث جعلت التعاون بينهم يتمتع بقبول أكثر من أي تعاون مع الآخرين)، وتولدت لديهم رغبة الاندراج تحت لواء حكومة واحدة.
كذلك صوَّر الفيلسوف جون لوك الأمة بأنها كيان يتكون نتيجة لعقد اجتماعي بين مجموعة من الناس، ولأن الناس في الأصل أحرار ومستقلون لا يمكن إخضاعهم لسلطة سياسية إلا برضاهم، ويكون ذلك عبر اتفاق يضم فيه بعضهم بعضًا ويتحدوا داخل منظومة اجتماعية توفر لهم الأمن والطمأنينة، وهو ما عُرف لاحقًا بالأمة.
وبهذا الوصف للمفكرين ميل ولوك فإن الأمة هي تصور يحتاج لمقومات وعناصر يتم صناعتها ليتكون منها بناء الأمة.. وكذلك القومية، فمفهوم الأمة والقومية عندهم هو (تصور) من حيث إن كلمة أمة هي مرادف لكلمة قومية، وليست القومية صفةً للأمة وإحدى خصائصها.
وهو ما توافق مع ظهور الحركات القومية في القرن العشرين، حيث كان مدلول مفردة الأمة مرادفًا ومطابقًا لمدلول كلمة القومية.
وبتطور الدراسات الفكرية تم تصنيف الدراسات التي اهتمت بدراسة مفهوم الأمة إلى نوعين من المدارس الفكرية، هما المدرسة التقليدية والمدرسة الحديثة. ونجد أن المدرسة التقليدية قد استندت في وصفها لعناصر الأمة إلى التحليل الاجتماعي الماركسي، حسب قراءة الأستاذ أحمد فؤاد أرسلان، ولم تهتم بالخصائص، حيث حددت ستة من العناصر هي: اللغة، والجغرافيا، والتاريخ، والبناء الاقتصادي، والضمير، والولاء. والملاحظ أنها لم تتحدث عن الخصائص.
أما المدرسة الحديثة فقد اهتمت بتحديد أبعاد مفهوم الأمة من خلال نظريتي التحديث ونظرية الاتصال الاجتماعي. وترى نظرية التحديث أن التحديث هو العنصر الذي يحدد نشوء وتبلور الأمة في واقعها المادي كدولة ذات سيادة، وذلك من خلال التفاعل بين الناس، وترى أن التحديث الذي بدأ في أوروبا وانتشر في بقية العالم هو الذي نتجت عنه ظاهرتا الحدود الإقليمية والولاء القومي، فبرزت نتيجة لذلك الدولة القومية ذات الأطر التنظيمية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتمكنت بذلك من الاستحواذ على الولاء القومي.
أما نظرية الاتصال الاجتماعي، فقد وصف فيها المفكر كارل دوتشي الاتصال الاجتماعي من حيث إنه مفهوم سياسي داخل إطار النظرية السياسية، ويرى أن القومية ليست ظاهرة غريزية أو فطرية بقدر ما إنها عملية تلقين اجتماعي وتشكيل ذاتي، ويرى أن التلقين يحدث من خلال النمو واستمرارية الاتصال عبر أساليب ومسالك متعددة، كما يرى أن عملية الاتصال هي التي تمنح الجماعة الطابع القومي من خلال آلية التعبئة الاجتماعية داخل الوحدات، وهو ما ينتج عنه بلورة الشعور السياسي والولاء القومي نتيجةً للاندماج الذي يعتبر حجر أساس عملية بناء المجتمع القومي.
إن القومية تبدأ من معرفة الفرد لذاته وإمكاناته وقدراته… وهي حب الفرد وانجذابه نحو المجموعة، واستعداده لبذل أقصى الجهد… وحب البشر لبعضهم يأتي من الاهتمام الواقعي والجماعي الذي يربط الأمة بعضها ببعض، وهو أمر يحتاج لتنمية وتمثيل ونضال.