الأطفال والحرب

جودة بشارة

الآثار النفسية للحروب التي تقع على الأطفال من أكبر كوارث الحرب وخسائرها ، وهي آثار تمتد بعمر الأطفال لسنوات وربما لنهاية العمر. فالرعب والخوف يهزان كيان الكبار دع عنك الأطفال، فقد يورثان الإضراب النفسي والعقلي والاكتئاب و’الجنون’ والتطرف والعنف وكل أمراض السلوك.

في السنة الثانية ابتدائي حفظونا أسماء عشرة من الملائكة ووظائفهم: جبريل وميكائيل وعزرائيل وإسرافيل…الخ. ورسخ في ذهني مقطع إسرائيل الخاص بالملائكة.

وفي يوم 7 أكتوبر عام 1973، وكنت طفلًا وما زلت في الصف الثاني الابتدائي، دخل الفصل أستاذ محمد يوسف، وبعد السلام سألنا: في حاجة كبيرة حصلت في الدنيا، في زول عارف هي شنو؟

تلميذ واحد فقط رفع يده، وكان هو علي إبراهيم حجازي، وأجاب: الحرب بين العرب وإسرائيل. قال الأستاذ: شاطر يا علي، فعلا بدأت الحرب أمس ولسه مستمرة، ونحن السودانيين طبعا مع العرب وربنا ينصرنا على إسرائيل، ثم بدأ الدرس.

دخلني خوف ورعب حتى شعرت بحمى خفيفة، وسرحت خارج الحصة، فقد داهمتني أسئلة عجيبة:
هل العرب ديل مجانين يدخلوا حرب مع أحد الملائكة؟ والسؤال الأهم: كيف الملاك إسرائيل من أمس ما قدر يهزم العرب؟ والسؤال الأكثر أهمية كان: كيف نرجع البيوت نهاية اليوم الدراسي طالما نحن مع العرب ضد الملائكة، هل أهلنا بيجوا يسوقونا ولا نرجع لوحدنا، وما الفائدة حتى لو أهلنا كانوا معنا في مواجهة ملائكة؟ لقد عشت ساعات قاتلة لحين شرح لي الأخ الراحل منير محمد عثمان في فسحة الفطور، وهو يسبقني بدفعة، بأن إسرائيل دولة وليست ملاك.
لقد هزني مجرد خبر عن حرب لم تقع في بابنوسة ولا في السودان ولا إفريقيا، فكيف بأطفال الخرطوم وبحري وأم درمان والجنينة والفاشر وزالنجي ونيالا والأبيض الذين يسمعون أصوات الدانات والقذائف ويشهدون الموت داخل بيوتهم، أمهاتهم وآبائهم وإخوتهم ويرون الحرائق والجثث في الشوارع؟ مئات الآلاف لو لم يكن الملايين من الأطفال مروا بهذه التجربة.

هل الناس المشغولين الآن بالترتيبات السياسية لما بعد الحرب، وتحضير الملفات التفاوضية السياسية والقانونية ونظم الحكم ومؤسساته، مدركين لتلك الكارثة؟ وهل لديهم أفكار وتدابير وبرامج ومشاريع لمواجهتها؟ دي مشكلة ليست في حاجة لمراكز ومنظمات فقط، بل تحتاج لتوجه دولة كاملة.
إذا توفر تمويل كبير فقد نتمكن من إعادة بناء المدن عمرانيًا، لكن كيف سيتم إعادة بناء نفوس وعقول الأطفال الذين سيكونون هم شعب السودان قريبا؟