بابكر بدري الآخر

بقلم عبدالله رزق ابو سيمازة

ثمة أكثر من بابكر بدري، الاول والاخر. وهذا ما يسعى السفر الذي يحمل ذلك العنوان : ” بابكر بدري الآخر .الرأي قبل شجاعة الشجعان ” ، للتمييز بينهما ، وبحث دواعي انفصالهما لشخصيتين. بابكر بدري المجاهد في صفوف المهدية، والذي ناصرها منذ أن كانت دعوة ،حتى هزيمة دولتها في كرري، والآخر ،الذي انسحب من ميدان المعركة ، لينضم للغزاة المحتلين ، ويتعاون معهم، فيما وصفه سير “ستيوارت سايمز” بالسياسة التقدمية للانجليز. وهو تناقض مثير للانتباه. فموقف بدري، من الإنجليز ،لم يكن موقفا تكتيكيا، أو مداجاة، وفق أحد نقاد المتنبي، والذي أقترح تلك المفردة، محل الصداقة،في قوله: –

ومن نكد الدنيا على الحر
أن يرى عدوا له من صداقته بد…
فقدعارض بدري حركة ودحبوبة، وثورة اللواء الابي، ربما اتساقا مع الموقف العام لقادة المجتمع، الروحيين، خاصة،في ذلك الوقت. وبدا أن ما اسمته الأستاذة “رباح الصادق المهدي”، في مقدمتها للكتاب، بالمباصرة، واسماه المؤلف، بروفسور “محمد المهدي بشرى” المصانعة ،والذي ربما كان موقف كل الذين بقوا في العاصمة ،بعد كتلة البقعة، واستنكفوا الكسرة، قد استأثرت معالجته بحيز ملموس، من الكتاب.
وقد خلا الكتاب ،الذي صدر عن دار آرام للطباعة والنشر والتوزيع، من آراء وشهادات مجايلي بدري، عدا من شاركوا في تقديم مذكراته.
ومن الغلاف الامامي، يبدو للوهلة الأولى، اجتهاد المؤلف في ترجيح وإبراز صفات بديلة للشيخ بابكر بدري، أهمها شجاعة الرأي، في محل دعم السياسة التقدمية للانجليز، كما رأى “ستيوارت سايمز”، حاكم عام السودان، في مقدمته للجزء الاول من كتاب ” تاريخ حياتي : بابكر بدري ” ، موضوع كتاب بروفسور مهدي.هذا الموقف السياسي، الذي سيشتهر به السيد “عبدالرحمن المهدي”، هو ماعرف لدى بعض الباحثين بالمهدية الثانية، ورغم فارق السن بين بدري والمهدي، لجهة نفي إمكانية تأثير الاول على الثاني، الا أن الرجلين جمعت بينهما صلة صداقة وثيقة، لم تجد حظها من نظر المؤلف.
ربما كان إنجاز المذكرات، بحد ذاته ،هو عمل مهم، يجعل الشيخ سابقا عصره، يثير التساؤل حول كيفية وصول الشيخ لهذه المأثرة في الثقافة السودانية. حول مصادر إلهامه وثقافته.
أثارت المذكرات، ولا زالت تثير ردود فعل متباينة. فثمة من يرفضها ،بهذا الشكل أو ذاك. فدكتور “منصور خالد”، أبدى ما يشبه التحفظ عليها،وعلى نهجها،في سياق إجابة له على سؤال في مقابلة صحفية، يتعلق بعدم كتابته مذكراته. وهو تحفظ يتصل بالنهج الذي اتبعه صاحب المذكرات. لذلك عندما قرر منصور كتابة سيرة حياته، ابتعد عن ذلك النهج في كتابة السيرة الذاتية، وعن نهج “مالكولم اكس”، و”كولن ويلسون”، و”بابلو نيرودا”، واختار الكتابة عن الجانب الديبلوماسي من حياته، و تفادى – بالنتيجة – الحديث،مثلا ،عن السيد “عبدالله خليل” وعن السيد “عبدالرحمن المهدي”، ومن ثم عن انقلاب 17 نوفمبر ،اول انقلاب عسكري في السودان،كان له ما بعده ، الانقلاب الذي وصفه قائده، الجنرال “إبراهيم عبود” ،بأنه تسليم وتسلم. وأشار “عبدالماجد عليش” في كتابه
” منصور خالد ، أسئلة بلا اجابات “، إلى استنكاف “منصور خالد” الجهير عن كتابة مذكراته أو سيرته الذاتية، على غرار “جان جاك روسو”، الصريح جداً، كما “سعد زغلول”، أو بابكر بدري “الذي فعل كل شيء.، روى كل شيء، روى كل ما لا يجب أن يروى، ولا يتوقع منه أن يرويه، “ص 310” ويحتج، في هذا السياق، بمقالة “سيجموند فرويد”، الذي أجاب، عندما سئل عن عدم تدوينه مذكراته “إن الناس لا يستحقون أن تقال لهم الحقيقة”، ووفق هذا النهج الانتقائي كتب “احمد سليمان ” ومشيناها خطى ” ،وكتب كامل محجوب، ” تلك الايام ” ، مثلا، مركزين على تاريخهما الشيوعي.
ربما يؤخذ على المذكرات،والتي هي سابقة ثقافية، تسجيلها لوقائع عادية، لا تسهم في تطوير سيرة حياة المؤلف، أو تتسم بمغزى عام. وبالبساطة التي وسمت لغتها، فيما كان الشيخ ،بما توفر له من معرفة واسعة باللغة العربية،ان يقدم منجزا أدبيا ، بمستوى ” الأيام ” لطه حسين .ما هو لافت للنظر في مؤلف مهدي ،هو خلوه من فصل مخصص لدراسة كتاب بدري عن الأمثال الشعبية ،بما يضيف بعدا لسيرته ككاتب، وكباحث رائد،في هذا المجال ،ودراسة المؤثرات التي دفعت به في اتجاه التأليف والتدوين،وسمات عمله الثقافي. فمن منطلق تخصصه في الفلكلور ،كان كتاب ” الامثال”،ادعي لاهتمام بروف مهدي، في المقام الأول. واظن أن المؤلف سيفرد في الطبعات القادمة للكتاب، حيزا لدراسة هذا السفر الهام،ان لم يخصص له كتابا قائما بذاته.