
د .علي قائد الجابري- اليمن
في نيسان من كل عام يطل علينا يوماً زاهياً بهياً متلألئ معبرآ عن ذكرى عظيمة، ذكرى ميلاد حزب البعث العربي الاشتراكي في السابع من نيسان عام 1947، الحزب العظيم بفكره التقدمي وأدبياته وثوابته العابرة للطائفية والمذهبية والعشائرية والمناطقية والقطرية والإثنية…
كان السابع من نيسان عام 1947 يوم تاريخي وفارق في تاريخ أمتنا العربية المجيدة يوم رفعت فيه رآية القومية العربية المؤمنة وانطلق البعث يخوض غمار معركة المصير من أجل تحقيق أهداف الأمة في الوحدة والحرية والاشتراكية. ورَسم لأمتنا أسس الحركة والتغيير وصاغها في دستور حمل أهداف الثورة العربية التقدمية. كما رسَم طريق الخلاص للأمة العربية في هذا العصر وفي المستقبل للقضاء على الحدود المصطنعة. وبناء الدولة الموحدة التي يتمتع فيها الفرد والأمة بمجموعها بالحرية والمساواة وتوزيع عادل للثروات بما يضمن كرامة الفرد وتحقيق إنسانيته وحريته في دولة تعيد للأمة كرامتها وتحقق رسالتها الحضارية الإنسانية وتساهم بشكل إيجابي وجدي في بناء الحضارة البشرية. فالسابع من نيسان ليس فقط استخلاص خبرة الماضي وعظمته ودروسه، أو الحاضر وإسقاطاته على المستقبل لكنه اختراق الحُجُب والعوائق البشرية لمواجهة الغد بكل تحدياته وآفاقه ومخاطره.
حال الأمة اليوم
تأتي هذه المناسبة في ظرف بالغ الخطورة والتعقيد، قلما عرفت الأمة العربية مثله في تاريخها الحديث، اذ تداعت كل قوى الشر والعدوان وقوى الرذيلة على الأمة ومشروعها النهضوي وقضيتها المركزية قضية فلسطين، بمختلف أشكالها وألوانها وفي مقدمة ذلك التحالف الصليبي -الصهيو-صفوي ومعهم كل من يدور في فلكهم من عرب الجنسية ودعاة التطبيع وقنوات التلميع للكيان الصهيوني. فالشعب الفلسطيني الأبي المجاهد يتعرض لعدوان وإبادة عرقية غير مسبوقة وجرائم تندى لها جبين الإنسانية. كما يتعرض لتهجير قسري وعقاب جماعي وقضية فلسطين تتعرض للتصفية. والهوية الوطنية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني يتعرضا للطمس والتغييب والارض الفلسطينية والأقصى يتعرضا للتهويد. كما تعرض ويتعرض الشعب العراقي للقتل والخطف والتهجير وقتل العلماء وانتهاك الكرامة والحريات والتجهيل من قبل الغزاة الأمريكيين والبريطانيين والإيرانيين والمليشيات الطائفية ويتعرض لنهب الممتلكات واستغلال وسرقة ثروات الشعب على ايادي اللصوص الأمريكان والإيرانيين واشعال نار الطائفية. فقد كانت الحرب الطائفية هدفاً أمريكياً إيرانياً مشتركاً في العراق. كما تعرض الشعب السوري للإبادة والتهجير والتشريد والترهيب والتجويع من قبل نظام ردة تشرين الذي رحل غير مأسوف عليه.
والحال في اليمن لا يختلف عما سبق بعد انقلاب المليشيات الطائفية فالشعب اليمني يرزح تحت حكم قمعي سلالي من أسوء الانظمة القمعية في التاريخ. يدعي الحق الالهي في السلطة والثروة، ويحظى بدعم إيراني سخي. والشعب يتعرض لانتهاكات متنوعة بين القتل والإصابة، والاعتقال، والاقتحام، والاعتداء، والتشريد والترهيب والتجويع، والإخفاء القسري، والمنع من مزاولة العمل، والامتناع عن صرف رواتب الموظفين وعسكرة الحياة المدنية تحت سلطة السلالين. علاوة على مصادرة الحريات والممتلكات، وتخريب البنية التحتية وتعيش بقية البلاد مقسمة إلى كانتونات متناثرة، والغالبية الساحقة من الشعب تعيش تحت خط فقر مدقع.
كما تعرض الشعب في ليبيا لتدمير ممنهج من التحالف الإمبريالي ومن المليشيات المسلحة، وانتهكت سيادته وسُرقت ثروته، وفي السودان الذي اٌنهك بالحروب العبثية والتمزيق لوحدته الوطنية طيلة العقود الماضية نتج عنها فصل جنوبه عن شماله، وطيلة تلك الحروب تعرض ويتعرض شعبه للإبادة والتهجير والتشريد والترهيب والتجويع والامر كذلك في لبنان والصومال.
وهناك قضية الشعب العربي الأحوازي الأعزل الذي يرزح تحت الاحتلال الفارسي منذ العام 1925م وتتعرض قضيته للتصفية والنسيان، كما تتعرض هويته الوطنية للطمس والتفريس القسري والقهري الممنهج، وشعبه يتعرض للقتل والتغيب والتهجير القسري وثروته تُنهب وشعبه يُجوع ويقمع من الاحتلال الفارسي في عملية تغييرٍ ديموغرافيّ واسعة، ومازال “الحبل على الجرار”. كما يعيش ابناء الأمة في بقية الأقطار اوضاعاً مختلفة من الفقر والكبت ومصادرة الحقوق والحريات ونهب وتبديد وتبذير للثروات.
وفي الإتجاه الموازي بدأت فكرة «إسرائيل الكبرى» الحلم صهيوتوراتي أكثر وضوحا، من خلال استهداف الأقطار المجاورة وبدعم لامحدود من اليمين المسيحي المتصهين فمن أرض الميعاد الى اسرائيل الكبرى بحدودها من الفرات الى النيل كما هي الخريطة المرسومة على عملة العشر أغورات الصهيونية (والتي تساوي عُشرَ الشيكل).
كما تأتي هذه المناسبة اليوم في ظرف قومي تمر فيه الأمة العربية بامتحان تاريخي تنضج فيه تحولات مصيرية، تذكرنا بظروف نشأة الحزب، فنشعر أننا نعيشها، فالحركة الثورية الأصيلة ميلادها لا ينتهي فهي تولد من جديد مع كل أزمة عميقة ومع كل فرصة تاريخية للنضال الخلاق (فلمثل هذا اليوم توجد الحركات الثورية الأصيلة، وفيه تجد مبرر وجودها). فحزب البعث جزء من الأمة، خرج من آلامها وحاجاتها، وتطلعاتها، ويبقى مرتبطا بالأمة وتاريخها ومصيرها، ويبقى وسيلة، والأمة هي الغاية. فماضي الحزب لا ينفصل عن حياة الأمة وحياة الثورة العربية وكل ما أصابته من نجاح أو فشل خلال العقود
الماضية كذلك. كما أن ماضي الحزب لا ينفصل عن حياة مناضليه وما قدموه من عطاء وما تحملوه من تضحية ومشقة كما يشير لذلك القائد المؤسس.
إن ما يحدث الآن من تداعيات ومؤامرات تستهدف الأمة العربية تشكل عوامل نكسة جديدة للنضال العربي الوحدوي والذي يتطلب منا مواجهة هذه التحديات بعد أن توضحت أدوار القوى الفاعلة والمنفذة للمشاريع التدميرية للأمة ( القوى الاستعمارية والصهيونية والفارسية الصفوية والشعوبية ) وتحديد مصادر الخطر وأساليب مواجهتها من خلال إحياء وتعزيز النضال القومي العربي الوحدوي، والانتصار لقضايا الأمة في فلسطين والعراق وسوريا والأحواز واليمن والسودان ولبنان وليبيا ،وغيرها من أقطار الأمة وأن تعمل القوى الحية في الأمة على تجاوز نقاط الخلاف مع بعضها والارتقاء إلى مستوى التحديات التي تواجهها الأمة والاتفاق على القواسم المشتركة لفتح الطريق والتمهيد لقيام جبهة القوى الشعبية العربية، لتقود نضال الجماهير العربية من المحيط الى الخليج نحو تحقيق المشروع العربي النهضوي الحضاري.
نظرة الحزب للدين والتراث
منذ أن تأسس حزب البعث، انطلق في مبادئه من تراث الأمة العظيم، ذلك التراث الزاخر بالروح وعبق الرسالة، المليء بالمعاني والعبر التاريخية الجليلة، حيث سبقت امتنا الإنسانية كلها في رسالتها الحضارية الاجتهادية المبدعة. وجاء التكليف بالرسالات المتعاقبة من الجليل الاعلى، ليعطي هذا التاريخ العميق والمبـدع، معناه الإنساني العظيم، ومعنـاه القـومي العظيم وانطلق الحزب من هذه المعاني مستنـدا اليها في رسالته العظيمة حيث كان موقف الحزب من التراث القومي أي من الإسلام وعلاقته الوثيقة بمرحلة الانبعاث القومي المعاصرة، معبرًا عن إحدى الاختيارات الكبرى لفكر البعث الذي قام منذ البدء على تصور ثوري للتراث، فحقق في نظرته الجديدة هذه، كما حقق في مفهوم القومية وفي النظرة الى الحرية سبقاً على الحركات التي أتت قبله.
فانطلاقة البعث من موقف تقدمي من الماضي، وموقف ثوري من الحاضر، وموقف حضاري من المستقبل، جعلته يرى أولاً أن الدين من أهم المؤثرات التي تحرك الإنسان وتوجه حياته. لذلك اتخذ البعث، ومن بواكير النشأة، موقعاً إيجابياً من الدين، بل اعتبر على حد قول قائده المؤسس: (أن الحياة تعنى الإيمان). (وأن الإلحاد موقف زائف من الحياة).
كما إنّ نظرة وموقف حزب البعث من التراث الذي أعلن منذ التأسيس، لم يكن موقفا تفسيريّا للماضي بقدر ما كان موقفا ثوريا من الحاضر ورؤية للمستقبل حرص فيها الحزب على تجنيب الثورة العربية بقدر الاستطاعة، الأمراض الخطيرة التي أصابت ثورات غيرها، فمسخت إنسانية المبادئ في بعضها، وكانت سببا في فشل وانهيار بعضها الآخر. (فاستلهام التجربة الخالدة في حياة الأمة العربية إنما يعني استلهام الإبداع والدوافع والقيم الإنسانية العميقة، القيم الثورية التي لا تخول الأمة العربية حقوقا وامتيازات بقدر ما تحمّل ثورتها المعاصرة مسؤولية كبرى، وواجبات عالية، نحو نفسها ونحو الإنسانية. انه تأصيل لفكر الحزب وليس تراجعا عن تقدميته ونهجه العلمي). ولأن الأمة العربية هي أمة الرسالات السماوية، كانت رؤية البعث ثاقبة وعميقة للعلاقة بين العروبة والاسلام (العروبة جسماً روحه الاسلام)، (كان محمدا كل العرب فليكن اليوم كل العرب محمدا).
وبالخلاصة فان نظرة البعث للدين والإيمان بشكل عام، نظرة شمولية واعية مستمدة من طبيعة المجتمع العربي المؤمن، الرافض للإلحاد من جهة والبعيد عن العنصرية من جهة ثانية والمتمسك بقيم الرسالة الخالدة من جهة ثالثة. وكان القائد المؤسس سبّاقاً وبالغ العمق في فهم تلك العلاقة العضوية، التي تستلهم الايمان وتجعله باعثاً على نهضة الأمة العربية، وترى فيه أثمن ما يجب أن يحافظ عليه العربي، أياً كان دينه. والزاد الثقافي والمعرفي والقيمي له في مواجهة مخططات الإلحاد والعنصرية ومسخ هوية الأمة العربية.
هذا الاكتشاف للرابطة العضوية بين العروبة والاسلام لم يكن صدفة وانما كان ثمرة وعي قومي عربي عميق ومتجذر. ولقد لخص لاحقا، ً القائد المجدد الرفيق الشهيد صدام حسين ذلك الموقف في مقولته: (لسنا حياديين بين الإيمان والإلحاد، نحن دوماً مع الإيمان، لكننا لسنا حزباً دينياً، ولا ينبغي أن يكون). فقد سبقت الإشارة إلى أنه مع اعتزاز وتقدير حزب البعث وموقفه الأيجابي من الأديان عموما، والإسلام على وجه التحديد، إلا أنه ليس حزباً دينياً ولا هو بالمقابل عقيدة دينية بديلة عن أي دين. ومن البديهي أن التشبع بالتراث القومي لا يعني مطلقا العبودية للماضي والتقاليد، ولا يعني فتور روح الابتكار والتجديد، بل يعني العكس تمامًا.
فالبعث لم يصب فكره ومشروعه الحضاري في قوالب جامدة فاقدة للحيوية والتطور، كما لم يكن طفيليّا او مقلدا ، ولكنه من خلال إدراكه الصلة القومية العميقة بالأمة قد كشف التناقض بين واقع الأمة وحقيقتها، وأكد ضرورة ان يحمل البعثيين على عاتقهم مسؤولية إنقاذ الأمة، بروح التجديد والتجدد شكلاً ومضموناً، وروح الابتكار والانقلاب على الذات. مدركا إن الذين يفقدون روح التجديد وروح الابتكار هم الذين لا يفهمون ماضي الأمة وروحها، ولا يفهمون من ذلك الماضي، وتلك الروح إلا القشور والمظاهر الجامدة. فحزب البعث يميز بين الماضي كروح والماضي كشكل، كما يؤكد الرفيق القائد المؤسس “إن اتصالنا بروح الأمة وتراثها يزيد في اندفاعنا ويقوي انطلاقنا، فلا نكون حائرين؛ لأننا نكون واثقين أن كل شيء فينا سيأتي ملائما لروح أمتنا”.
ومن هنا رفض “البعث” حصر الدين، في الجوانب التعبدية بل جعل منه روحاً حضارية وعاملاً على النهضة وباعثاً للتحدي والبطولة، واستلهمه في إطار منظومة قيمية شاملة في سبيل تحقيق نهضة الأمة العربية باعتبارها صاحبة رسالة التوحيد وحاملة بشائرها إلى الانسانية. ولذلك فان البعث ليس مجرد حزب ومنهج قومي وانما هو بعث ورسالة. او انه بعث رسالة هذه الأمة
ووضعها في مكانها الصحيح لتأدية دورها الحضاري من جديد، بالاستناد الى كل المعاني العظيمة في تراثها، وفي مقدمة المرجع من هذا التراث، هو تراثها
الروحي الموحِد. لذلك فإن حزب البعث ليس حزباً تقليديا كنتاج للتطور العالمي، في المنطقة مما تمخضت عنه الحرب العالمية الثانية، شأن الأخرين، وانما هو حزب رسالة ودعوة عظيمتين. إلا أن هذه المعاني، رغم أنها قد وردت بوضوح في شعار الحزب : (أمة عربية واحدة – ذات رسالة خالدة) ، وفي منطلقات الفكر الذي غذاه الرواد، يتقدمهم الاستاذ المرحوم أحمد ميشيل عفلق، فان العرب لم ينتبهوا في السابق، وعلى نطاق واسع، الى هذا الوصف، وهذه المعاني التي يختلف فيها حزب البعث عن الأحزاب الأخرى في منطلقات فكره وفي عمله. وعلى هذا الاساس لم يكن اول مؤتمر له في سوريا عام ١٩٤٧، موجها بالأساس ضد النظام الذي كان سائداً آنذاك في القطر العربي الذي عقد فيه، بل ولم يكن الدافع من تشكيل الحزب، وانعقاد اول مؤتمر له، دافعاً سياسياً مؤقتاً، ولا كان الدافع السياسي في مرحلته هو المحرك الأساس، لينبثق الحزب ـ الفكرة ـ في ذلك الوجود. كما لم يكن مجرد حزبٍ جاءت به ظروف سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية. ولا حركة أنشأتها مجموعة مغامرة تهدف الى تسلم السلطة والحصول على مغانمها، بل هو رسالة أمة وتعبير صادق عن عنفوانها ونزوعها للأهداف الكبرى، في مرحلة تاريخية فاصلة بين مرحلتي الاستعمار الأجنبي المباشر وغير المباشر، وبدء مرحلة الاستقلال الوطني.