محطات في حياة المناضل الأستاذ بدر الدين مدثر

محطات في حياة المناضل الأستاذ بدر الدين مدثر

تزامن مخاض ولادته وتفتح وعيه، مع مخاض ولادة حزب الثورة العربية، الضرورة التاريخية والممثل لحقيقة الأمة وجوهرها، ونقيض واقعها، مولود معاناتها ونقيضها في آنٍ واحد.
إيمانه برسالة الأمة الخالدة، ووعيه بأهليتها لحمل الرسالة، جعله يستوعب ما أفصح عنه القائد المؤسس أحمد ميشيل عفلق بقوله: (إن ليس بيننا وبين المستقبل الذي يتحدث عنه البعث العربي، والذي هو موضوع عملنا ونضالنا، زمن حسابي يقدر بالأشهر والسنين، إنه زمان نفسي نستطيع تحقيقه منذ الآن، وأن نملكه، فنملك به الخلود، فليس المستقبل هو الزمان الذي سيأتي، بل هو المستوى النفسي والفكري الذي علينا أن نصل إليه في الوقت الحاضر)، ولذلك أدرك أن مقاومة الأمة للاستعمار، وللتجزئة، والتخلف والنضال من أجل ذلك، هو جزء متحقق من رسالة الأمة بغير انفصال عن واقعها، وفي جهد أبناءها لتغيير هذا الواقع بإرادتهم الحرة المستقلة.
هكذا كان الفقيد، ومنذ اختار الانتساب لحزب الرسالة الخالدة، قائداً تاريخياً فذاً، شيد بإيمانه وعبقريته، وحكمته وصبره، ومثابرته ونضاله وصلابته، صرح حزب – البعث العربي الاشتراكي – في السودان. كما أسهم في بناء الحزب على المستوى القومي، لا سيما منذ انتخابه عضواً في القيادة القومية في المؤتمر القومي الحادي عشر للحزب الذي انعقد عام 1977، والمؤتمرات القومية اللاحقة.
ولما كانت فلسطين هي قضية العرب المركزية، كما أضحى العراق بعد ثورة تموز 1968 قاعدتها المحررة، فإنه قد شجع التحاق، عدد من عضوية الحزب للقتال في صفوف جبهة التحرير العربية، وللقتال دفاعاً عن البوابة الشرقية للوطن العربي في القادسية وأم المعارك والحواسم.
عاش حياته مجسداً لمبدأ البعث، الذي أطلقه الرفيق القائد الشهيد صدام حسين: في أن البعثي أول من يضحي وآخر من يستفيد.
وفهم بأن الوحدة التي ينادي بها البعث ويؤمن بها، لا تفسح مجالاً لمنتسبيه بأن يكونوا قطريين، أو جهويين، أو قبليين، أو عشائريين، أو طائفيين، إلا بمقدار ما تكون فيه تلك العناوين جسوراً منفتحة على بعضها البعض، في خدمة الوحدة، والحقيقة التي تمثلها وحدة الأمة العربية.
وإن الاشتراكية التي ينادي ويؤمن بها الحزب هي في انحيازه للفقراء والكادحين، الذين يمثلون الغلبة الساحقة من أبناء الأمة، وليست في محاباة أو مداهنة الشرائح المستغلة المتسلطة المهيمنة على مقاليد الأمور سياسياً واقتصادياً.
وإن الحرية إنما تعني إلى جانب إطلاق طاقات الفرد واستقلال شخصيته، التخلص من التبعية والارتباط بالأجنبي، أو الخضوع له.
وانطلاقاً من وعيه بجدلية العلاقة بين قضايا النضال القومي العربي وقضايا النضال الوطني السوداني، حرص على أن يكون الخطاب السياسي للحزب متكاملاً في أبعاده الروحية والقومية والوطنية، وبتأكيد أن القضية القومية على مستوى الوطن العربي هي الأصل، وأن خصوصيات الأقطار هي جزء متفرع من أصل القضايا القومية، التي هي قضايا واقع التجزئة والتخلف والتبعية، وإن اتسمت بقدر من الاختلاف هنا وهناك.
استوعب الراحل أمراض الأنظمة المسماة بالديمقراطية في قطرنا، والتي حالت دون استقرارها داعياً إلى كسر ما أسماه (بالحلقة الجهنمية) التي ظلت تراوح في مدارها بلادنا، نظاماً ديمقراطياً عاجزاً وخاوياً، يعقبه نظام عسكري استبدادي فاشل، تسقطه أو تطيح به انتفاضة شعبية لا تتحول إلى ثورة جذرية شاملة.
شارك في تأسيس مؤتمر الدفاع عن الديمقراطية رداً رافضاً لقرار حل الحزب الشيوعي بعد ثورة 1964.
ظل ينبه بعد انتفاضة مارس / أبريل 1985 لمخاطر الردة على الديمقراطية، فعلى الصعيد الداخلي – أي داخل الاجتماعات الحزبية – كان يوصي رفاقه بأن (اعملوا للديمقراطية وكأنها تدوم أبداً، وللردة وكأنها ستأتي غداً) ليحافظوا على ميزة التوازن التي ظلت تميز الحزب سواء في عقيدته، أو تنظيمه، أو خططه، أو خطه وخطابه السياسي، وعلى الصعيد الجماهيري تحدث في مناسبات مختلفة عن رعاية ما أطلق عليه (حديقة الديمقراطية) مرة، ومحذراً من المخاطر المحدقة بالديمقراطية ومؤامرات الردة عليها حيث أخذت أحاديثه في عدد من الندوات الجماهيريةعناوين: الشعب أقوى والردة مستحيلة.. وعجز الحكومة ومخاطرالردة.. وغيرها من الأحاديث الموثقة في كتيبات بتلك الأسماء وسواها.
وفي مواجهة موجة الهوس والمتاجرة بالإسلام والإرهاب الفكري التي نصبت محاكم التكفير لتصفية خصوم مايو وحلفاءهم الإسلامويين، عمل على حشد ومشاركة كوكبة رفيعة من المفكرين والعلماء، منهم د. محمد أحمد خلف الله ود. محمد عمارة للدفاع عن البعث، ودحض فرية تهمة الردة التي حاول النظام المايوي وحلفاءه الإسلامويين إلصاقها بعدد من مناضلي حزب البعث، الأمر الذي حوّل المحاكمة – قبل وصول أولئك المفكرين العروبيين الإسلاميين إلى القطر – إلى محاكمة تدافع عن العروبة والإسلام، وتعري المتاجرين بالإسلام الذين سبق له أن وصفهم بأنهم فلاسفة اليمين واحتياطي الرجعية.
كان يؤمن بأن الاعتراف بالمشكلة – مشكلة جنوب السودان، يمثل مقدمة الطريق لاكتشاف حل لها.
وأن الحوار بين أبناء الوطن الواحد هو السبيل للوصول إلى اتفاق راسخ. لذلك رفض خيار الحسم العسكري، وتمسك ونادى بأن الاعتراف بواقع التمايز الثقافي الحضاري الجغرافي لجنوب السودان عن شماله، يقتضي ويرتب حقوقاً قانونية ثقافية اقتصادية اجتماعية للجنوب. وألا سبيل لإنزال ذلك لأرض الواقع إلا في ظل مناخ ديمقراطي، وبمسئولية القوى الديمقراطية في الشمال والجنوب، وبأن وحدة السودان هي الإطار الذي يقوم الحل السلمي الديمقراطي على هديه، ولهذا أيضاً دان وعمل بأقصى جهد لتعرية قوى الخيار العسكري بعد انتصار انتفاضة مارس / إبريل ووصف تلك القوى (الشمالية والجنوبية) بأنها قوى (التصعيد والتصعيد المضاد)، وأنها تتناغم بمستوى واحد، وإن بدت متناقضة في تهديدها لوحدة القطر واستقلاله واستقراره ونمائه.
ولم يساوم على المبادئ يوماً، بل حرص على أن يجنب حزبه مغبة ارتكاب أي خطأ استراتيجي في علاقته بجماهير شعبنا. لذلك اتخذ موقفاً نقدياً معارضاً ومبدئياً من الأنظمة الاستبدادية الثلاثة، فلم يغازل، أو يصالح، أو يشارك، أياً منها (السلطة أو الثروة) لا على المستوى التنفيذي أو التشريعي. ولم يستسلم أو يرضخ أو يحني هامته للإرهاب الفكري الذي حاولت أن تشيعه بعض الأوساط التي كانت محسوبة على المعارضة، بينما كانت كما سماها بدائل زائفة وتناقضاً ثانوياً للأنظمة القمعية واستنساخاً رديئاً لها.
وهكذا جاءت رؤيته في الستينات لجبهة الأحزاب المعارضة، وللمشاركين في المجلس العسكري لنظام عبود.
كما كانت رؤيته لما يسمى بالمصالحة عام 1977 وللجبهة الوطنية. وهكذا كان واقعياً في تقديره لمآل التجمع الوطني الديمقراطي، ولمن سبقه في مشاركة الإنقاذ السلطة ولمن زايد من (المتساقطين) عن مسيرة البعث على موقف البعث من الإنقاذ، الذين انتهى بهم المطاف إلى الارتماء في أحضانها بعدما قادتهم مصالحهم الذاتية لخدمة زعماء الطائفية كمستشارين لهم، فتطابق موقف فقيدنا وحزبه مع موقف قاعدتنا المحررة باذنه تعالى وقائدها التاريخي الذي اختار المبادئ وطريق الرسالة، بدلاً من السلطة، وذل التنكر للعقيدة والمبادئ، وخيانة قسم الانتماء للبعث العظيم.
لقد رأى في تطورات الأوضاع الأخيرة في قطرنا فرزاً تاريخياً بين قوى الاستبداد والعنصرية والتبعية والانحطاط والتخلف والتقدمية الزائفة الخاضعين للأجنبي والانفصاليين من جانب، وبين قوى الوحدة والديمقراطية والسلام والتقدم والاستقلالية ومناهضة الأجنبي من جانب آخر. ونقول لفقيدنا بأن الخط التاريخي الذي اعتمدته للبعث فأحدث هذا الفرز الواضح وأزال التغبيش عن الوعي، سينتهي حتماً بالاستقطاب لحزب الثورة العربية.
كان المناضل بدر الدين مدثر رحمه الله خلال النصف الثاني من السبعينيات والثمانينيات يلعب دورا كبيرا في بناء منظمات الحزب في أقطار الوطن العربي كلها، وفي بلاد المهجر، وذلك لما يتمتع به من قدرات فكرية وسياسية وتنظيمية كبيرة. وكان له دور كبير في تطوير منظمات البعث في الأقطار العربية، خاصة في شمال أفريقيا، من خلال قيادته المباشرة لمكتب المغرب العربي في القيادة القومية، ولعب دورا مهما في بناء الكوادر القيادية في تلك الأقطار، من خلال الدورات التثقيفية والمحاضرات والندوات والاصدارات الثقافية.