لا تغريبةٌ أخرى نلوذُ بها

شعر : عبد الناصر صالح
فلسطين–طولكرم

البحرُ يَبْتَلعُ الرّصاصَ
ولا يخونُ الميّتينَ ولا مُشاةَ الماءِ
يبتلِعُ الحدودَ
يُغربِلُ الصحراءَ من غَيْمٍ إلى غَيْمٍ
ومن نَخْلٍ إلى نَخْلٍ
ومن حَرْثٍ إلى حَرْثٍ
سنكتبُ فجرَنا عيداً يصدُّ الموتَ
يَخْنُقُهُ،
يَشُدُّ حزامَهُ الناريَّ
يلجأُ للحظيرةِ خائباً متصدّعاً
ما خابَ ظنُّكَ في الرسالةِ
إننا نجتازُ جسرَ الموتِ
لا مسحورةٌ أحلامُنا والفكرُ
لا قَدَريّةٌ دوّامةُ الآلامِ
ها وطنٌ عريقٌ
آمِنٌ للعشقِ يجتثُّ الكوابيسَ الخبيئةَ
في فصولِ العُزلةِ الجَرْداءِ
أو لغةِ المَواتِ،
يُطِلُّ من عَيْن الرّجاءِ
على مدائِحِنا النّهارُ
يُجيدُ فنَّ القَنْصِ
قد تسعى لبُغيَتِها المكارِمُ
مثلَ ساريةٍ إلى الغاباتِ
آتٍ عُمرُنا
لا بدَّ آتٍ في براحِ الانتصارِ
يُمسّدُ الرّاياتِ
يرفعُها إلى عَلْيائِهِ
قمراً يطلُّ على البلادِ
ولستَ وحدكَ في أزيزِ الليلِ قربَ البحرِ
آتٍ عمرُنا
رُزْنامةُ الشهداءِ رائقةٌ لوجهِ البحرِ
أسماءٌ تدافعُ موجَهُ للقاعِ
تعلو ثم تعلو حيثُ تلتئمُ الرّؤى
حوضٌ من النّعناعِ في ثوب الشهيدِ
وللمراكبِ رايةٌ تعلو
ورعشةُ طائرٍ يغفو على جرحٍ
تعثَّرَ في إصابتِهِ
كأنّكَ عائدٌ
فاذهبْ إليكَ
وقشّر المخزونَ من ثمَرِ الضُّحى
علَّ النهارَ شفيعُنا الضَّوْئيُّ
ما بينَ الحرائقِ والدّمارِ
يشقُّ ثوبَ الصّبرِ
نحنُ دماؤُنا للأرضِ
منحازونَ للفقراءِ كالمعتادِ
ما شطَبَتْ حروفُ النَّفيِ شارِعَنا
تُبادلِكَ المدينةُ عشقَها بِبَراعةِ الإقدامِ
لن نَلْهو
سَنَعْمى إن تراجَعْنا ونخسرُ عمرَنا
كلُّ النّوافذِ قد تطلُّ عليكَ
تبرزُ من شقوقِ الحائطِ المشطورِ
لم تَـفقِدْ صوابَكَ
كنتَ في دمِنا على صدرِ الخريطةِ
شاهدَ الإيقاعِ
في عَزْفِ المدينةِ/
فالرسالةُ أن نُقيمَ اليومَ عُرساً
للّذينَ يُبايعونَ الأرضَ
روحاً في تظاهرة الجياعِ
كأنَّ صوتكَ لوحةٌ من أصدقِ العشّاقِ
تَجْترِحُ البقاءَ
الأرضُ ماثلةٌ لخَطْوِكَ
صوتُكَ المَمدودُ فينا
شارةُ الإيقاعِ في لحنِ الشهادةِ
عرسُنا يمتدًّ
فاستَحْضِرْ هواكَ
البحرُ يقتلعُ الرّصاصَ
ويحتمي بجدارِهِ العلويِّ من عنف القذائفِ
عرسُنا يمْتدُّ
كان الموج مُبْتَـهِلاً
وصوتُ الأرضِ يكتبُ روعةَ الأوتارِ
مرَّ الموجُ
بيتاً عامراً بالعشقِ
عن قصدٍ سيقصفُ حيَّنا المحتلُّ يا ولدي
يُدمّرُهُ على مَنْ فيهِ
بيتي ، بيتَ أجدادي وأسئلةَ الطفولةِ
لم تَزلْ في الرّوحِ أغنيةٌ
فما بُؤسُ اللجوءِ سوى محطةِ عابرٍ
ما بيننا يبقى المخيم شامخاً
تبقى المدينةُ والقرى
والبَيْتُ
والأملُ المعشّشُ فوقَ دمعِ الأرضِ
أعْدو خلفَ عائلتي
دمي فوقَ الدّمارِ
أعدُّ أشلائي فينغلقُ الغبارُ
بكلّ ما مَلَكَتْ يدايَ من البقاءِ
أنا المُرابِطُ فوقَ ظَهْرِ الماءِ
أكتبُ سيرتي قيثارةً للموجِ
تُرجِعُني لرحلةِ عمرِنا الأولى
وغَزّةُ ماؤُنا
وهواؤُنا ..
تلك الجذورُ الضارباتُ جذورُنا
لا بأسَ يقطُرُ جرحُنا
لكنّها تعلو على الجلّادِ قامتُهُ
دمي فوق الجدارِ
يرى قبابَ القدسِ
ها مِحْرابُها
يَرْقيكَ من عَبَثِ الفراغِ المُسْتَجَدِّ
كأنّهُ يُهديكَ داليةَ المجازِ
وما ملكْتَ من المَقالةِ
سيرةَ للبَوْحِ
يعلو السّيفُ
ها لغةُ الهواءِ تصيرُ ماءً في الخيامِ
لعلّني أمشي وحيداً
أسمعُ الضوءَ الذي يتصدّرُ الأشلاءَ
كم طفلاً سَيَغْرَقُ في الدماءِ
ليستعيدَ البحرُ ثَوْرَتَهُ
وينْفَرِشُ الضّبابُ عن الخُطى ؟
فاخرُجْ من الأرضِ التي لَفَظَتْـكَ
أُخْرُجْ ..
لن يفيدكَ في تصاعدِ مجدِها
تاريخُكَ المخلوعُ
كأسُ العمرِ مُتْرَعَةٌ
بعُمْرِ حنينِها
فاخرُجْ ..
كأنّكَ لَمْ تطأْ أرضاً هنا ..
أُخرُجْ ذليلَ الرأسِ والنّظراتِ
هامَتُنا برسمِ القدسِ شامخةٌ
فهل ستعودُ شُرفَتُنا منَ السّفرِ الطّويلِ
ليهدأَ الشّلالُ
لن يتأخّرَ الماضي
فكيفَ نَغوصُ في عَبَثيّةِ الأسماءِ ؟
ألقى البحرُ خُطْبَتَهُ
فهلْ ولّتْ قوافِلُنا أمامَ ضَلالِهِمْ ؟
سَيَرَوْنَ في الميدانِ فُرْساناً
على مدِّ الرُّؤى يَتقاطَرونَ
يلوّنونَ العُمرَ
يَنْبُتُ في مَراياهُمْ ..
ويُغَرْبِلونَ الرّيحَ كالفُصَحاءِ
بالمطرِ الّذي يمتدُّ للأعماقِ
كي يصلَ التُّرابَ الحَرْثُ
والزَّرْعُ المؤجّلُ للمدينةِ
تلكَ مَكتَبَتي على الإسفلتِ
فجّرَها الغزاةُ الهالكونَ
رأيتُهُمْ ..
لي أُخوةٌ في البيتِ
وامرأةٌ وأبناءٌ ووالدةٌ
ومملكةٌ رأيتُ البحرَ من شُبّاكها
ولمَسْتُ في دمِهِ حريرَ الوقتِ
هل بيني وبينَ الموتِ جثّةُ صاحبي ؟
سألمُّ بعضَ اللّحمِ عن جَسَدي
إذا ما أخطأَ الصّاروخُ
إنّ البحرَ موفورُ اليقينِ
كما الشّهيدِ على خليطِ الدّمعِ
يُثمِرُ في انفراجِ اللّحظةِ الأولى
على ثَغْرِ المُخيّمِ ،
غزّةُ وَمْضَةُ المعراجِ
والإسراءُ طوفانُ المِجَنّ إلى القُرى
يافا ستبدو حُرّةً
من قفزةٍ تَعْلو كرومَ المَرْجِ
تبدو حُرّةً في صَحْوةِ الطّوفانِ
تبدو حُرّةً :
ساحاتُها
وجبينُها الصّيفيُّ
شاطِئُها ..
وبيوتُها العربيّةُ الأختامِ
هاجِسُها الرّهيفُ
يقينُها الفِطريُّ
ها مِزْمارُها صافٍ كغيمِ القَـلبِ خامَتُهُ
كأنَّ الصُّبحَ يلفَحُها ..
فصوِّبْ نَحْوَها
صوِّبْ
سنَفقِدُ وعْيَنا إنْ غِبْتَ
تنفَجِرُ القذيفةُ
لم تَزَلْ في رَكْبِها صورُ الضّحيّةِ
قد يكونُ البحرُ طَوْعَ يديكَ
ها سدَّ الغبارُ ضريحَهُ
للخلفِ دُرْ يا موتُ
سوفَ نعيشُ في طوفانِنا عُظَماءَ
شمسُ بقائِنا ميراثُنا اليوميُّ
لا تغريبةٌ أخرى نلوذُ بها ..
وغزّةُ جنّةُ الدُّنيا وحسناءُ الفرائِضِ
ما هُزِمْنا في الحروبِ وما صُلِبْنا
عرسُنا آتٍ ونارُ يقينِنا
خسئَ التفاوضُ يا أخي
خسِئتْ معادلةُ الرَّغيفِ
لقاءَ إسقاط البَنادقِ
وانفلاتِ الخَيْلِ
لنْ يُجدي الخِداعُ
ولن نَضِلَّ طريقَنا للقدسِ
نحنُ هُنا
هُنا ..
سنكونُ طَوعَ البَحرِ والسَّيفِ المهنّدِ
أدبَرَتْ في فَوْهَةِ البركانِ عينُ الغولِ
وانْقشعَ الضّلالُ عن العقيدةِ
ها هُنا نحن ابتدَأنا
لم تكنْ يا بحرُ تجري والخرائطُ في يديكَ
تُعيدُ ترتيبَ الرياحِ
كأنْ تُغنّي للضُّحى ..
نَهَبَ القراصِنَةُ الطفولةَ
غلّة السّهلِ الثّمينةَ
رغبةٌ عمياءُ تَسْتَهْويهُمُ
من فَرْطِ دَهْشَتِها
كمن في العارِ يألَفُ حقدَهُ
مثلُ النّفاياتِ المُميتةِ
كلّما اعتدلَ النّهارُ ..
كأنّني أطلقتُها نافورةً لشروقِنا الموعودِ
نَحلِفُ أن سَنَبقى
والمدائنُ فجرُنا
عمرٌ سيكتُبُنا مع النوّار
عمرُ ربيعِنا الوقفيّ
غزّةُ حكمةُ المدّاحِ ، رُقْيَتُهُ
ونبضُ الشاعرِ المفتونِ بالأرواح ما بين الثّرى
عمرٌ تجلّى في كوامِنِها
وروايةٌ تُسقى بماءِ الجمرِ /
ها نحن ابتدأنا يا أخي
فاذهبْ إليها ..
إذهبْ قريباً من قطاف الساحل العربيّ
سوفَ يكونُ عرسُ البحرِ
عرسُ ربيعِنا ..

*الصورة للفنان جيتاوي