افتتاحية الملف الاقتصادي : الحرب السودانية تدخل عامها الثالث: تحولات الجغرافيا وتآكل الاقتصاد

مع دخول الحرب السودانية عامها الثالث، تتغير معالم الصراع بسرعة تفوق قدرة التفسير السياسي التقليدي، لكن الأثر الأعمق يتمثل في الانهيارات الاقتصادية المتراكمة التي باتت تهدد وجود الدولة السودانية ككيان منتج ومنظم. فكلما طال أمد الحرب، وتوسّعت دائرة أطرافها، كلما زادت كلفة الإبقاء على ما تبقى من بنية اقتصادية شبه مشلولة. ولعل دخول “الطرف الثالث” — بما يمثله من معادلات جهوية وعسكرية جديدة — يفاقم الأزمة عبر تحولات جيوسياسية جديدة تُدخل السودان في معادلة اللااستقرار المزمن.
أول ما يجب التوقف عنده أن الحرب، منذ اندلاعها في 15 أبريل 2023، لم تكن مجرد نزاع مسلح بين طرفين، بل كانت قاطعة كلية لمسار الاقتصاد السوداني الذي كان يرزح أصلاً تحت ضغوطات هيكلية معقدة. مع مرور أكثر من 700 يوم من القتال، اتسعت الفجوة الإنتاجية في قطاعات رئيسية مثل الزراعة والصناعة والخدمات. وانقطعت سلاسل الإمداد المحلية والإقليمية، وتآكلت الثقة في النظام المصرفي، وتزايد الاعتماد على الاقتصاد الموازي والمضاربات العشوائية.
لكن دخول أطراف جديدة في الصراع (ما يسمى بالطرف الثالث) — سواء من حركات مسلحة كانت على الحياد، أو مليشيات مناطقية — يعيد تشكيل الخريطة الاقتصادية كذلك، لا فقط العسكرية. فالموارد باتت تُدار في مناطق النفوذ خارج سلطة الدولة المركزية، مما يعني عملياً تعددية في الأنظمة الاقتصادية المصغرة، تبدأ من الضرائب العرفية والرسوم على التجارة وتهريب الذهب، ولا تنتهي بالسيطرة على مشاريع البنية التحتية والموارد المحلية. هذا التمزق يقود إلى ما يمكن تسميته بـ”اقتصاد الفوضى المنظمة”، حيث لكل قوة منطقها المالي الخاص.
في ظل غياب سلطة موحدة تُشرف على الإنتاج، والجباية، والعملة، تتدهور المؤشرات النقدية بشكل متسارع. الجنيه السوداني يفقد قيمته تدريجياً أمام الدولار والعملات الأجنبية، بينما تتسع الفجوة بين السعر الرسمي والسوق الموازية، وسط شح احتياطات النقد الأجنبي، وتعطّل صادرات الذهب والصمغ العربي والثروة الحيوانية — وهي أعمدة الاقتصاد السوداني التقليدي.
أما على مستوى المالية العامة، فإن الدولة السودانية لم تعد قادرة فعلياً على جباية الضرائب أو تقديم الخدمات، مما يعني أنها فقدت أدواتها الكلاسيكية في ضبط الاقتصاد. بالمقابل، تعتمد المجموعات المسلحة على اقتصاد الريع الحربي، من خلال التحصيل القسري، نهب المخزون الاستراتيجي، أو بيع السلع في الأسواق السوداء، وكل ذلك يعمّق تشوّه السوق.
ويزداد تعقيد المشهد مع تفكك سلسلة الإمداد الغذائي، وتدهور طرق المواصلات، وارتفاع تكلفة النقل واللوجستيات بين ولايات البلاد، خاصة بعد أن أصبح الوصول إلى العاصمة الخرطوم — مركز التجارة والإدارة سابقاً — محفوفاً بالمخاطر أو مستحيلاً. وقد أدى ذلك إلى تضخم غذائي مفرط في بعض الولايات، يقابله انكماش اقتصادي شديد في مناطق أخرى.
وفي سياق دولي أكثر اتساعاً، فإن العزلة الاقتصادية المتزايدة للسودان، واستمرار العقوبات وعدم استقرار البيئة الاستثمارية، أفقد البلاد فرص التمويل الدولي والاستثمار الأجنبي. وبالرغم من استمرار الجهود الإقليمية لوقف إطلاق النار، إلا أن غياب حل سياسي شامل يبقي المشهد غارقاً في الضبابية، ويمنع أي تعافي اقتصادي محتمل.
من الناحية الاجتماعية، فإن ما يزيد عن 10 ملايين نازح داخلي، إضافة إلى أكثر من مليون لاجئ في دول الجوار، يساهمون في إفراغ المدن من قواها العاملة، وانقطاع السوق المحلية عن الطلب الحقيقي، مما يؤدي إلى تعميق ما يمكن تسميته بـ”اقتصاد الهجرة المعكوسة”، حيث يتحول المركز إلى هامش، وتُهجر المدن لصالح الأقاليم الأقل تضرراً أو دول الجوار.
الخطير في الأمر أن الاقتصاد السوداني دخل الآن مرحلة “ما بعد الاقتصاد” — أي فقدان القدرة على التخطيط، التنبؤ، أو التدخل المنظم. وتصبح بذلك قرارات السوق محكومة بسلطة السلاح والولاءات، لا المنطق الإنتاجي أو التنافسي.
في الختام، فإن دخول الحرب السودانية عامها الثالث، مع اتساع دائرة المشاركين فيها، يفرض على صناع السياسات والمنظمات الدولية تبني مقاربات جديدة، تتجاوز الحلول التنموية التقليدية، نحو فهم أعمق لكيفية استعادة الدولة ذاتها كفاعل اقتصادي، قبل التفكير في أي حديث عن “إعادة الإعمار”. فدون وقف الحرب وبناء إطار سياسي جامع، فإن السودان ماضٍ في طريق التفكك الاقتصادي الشامل، وغياب المستقبل المؤسسي لأي خطة إنقاذ.