عندما ينهار الأمل: كيف يصنع الإحباط ركوداً اقتصادياً؟

طارق عبداللطيف ابوعكرمة
في الأدبيات الاقتصادية التقليدية، يُفسّر الركود من خلال تراجع الناتج المحلي الإجمالي، وانخفاض معدلات الاستثمار، وتباطؤ الإنتاج، وتدهور حركة السوق. ومع ذلك، تظل هذه الأرقام مؤشرات سطحية لا تلتقط الأعماق النفسية التي تُنتج مثل هذا التدهور. فحين يُصاب مجتمع ما بالإحباط الجماعي، وينهار الأمل كمفهوم جمعي، تتحول الأزمة من مجرد تراجع اقتصادي إلى حالة شلل شامل يصعب قياسه بالمؤشرات الصلبة، ويصعب تجاوزه بالسياسات المالية وحدها. يحدث ذلك في السودان اليوم، كما حدث في تجارب بلدان أخرى خرجت من حروب أهلية أو انقلابات متكررة، حين أصبح اليأس وقوداً غير مرئي لركود اقتصادي طويل الأمد.
الإحباط، من منظور الاقتصاد السلوكي، ليس مجرد حالة شعورية طارئة، بل هو متغير اقتصادي حقيقي يؤثر في قرارات الاستهلاك، والادخار، والعمل، والهجرة، والاستثمار. فعندما يفقد الناس ثقتهم في المستقبل، فإنهم يكفّون عن المخاطرة، يتراجعون عن الانخراط في المشاريع الإنتاجية، ويميلون إلى الاكتناز بدل الإنفاق، ويؤجلون القرارات الكبرى. وهذا السلوك النفسي لا يقتصر على الأفراد فقط، بل يمتد إلى المؤسسات الصغيرة والمتوسطة التي تمثل العمود الفقري لأي اقتصاد ناشئ.
في السودان، تتجلى آثار هذا الإحباط في الأسواق الخالية، والمصانع المتوقفة، والأسر التي تقطع عن أبنائها التعليم لأن المستقبل “لم يعد مضموناً”، والمستثمرين المحليين الذين إما هاجروا أو جمّدوا نشاطهم انتظاراً لمجهول. كل هذا يحدث في ظل صمت إحصائي لا يقيس إلا المال المتداول، بينما يغفل عن قياس الإرادة المبددة، والطاقة النفسية المهدرة، والخوف العميق من الغد. فبينما كانت السياسات العامة تتحدث عن تعويم الجنيه، أو إعادة هيكلة الدعم، كانت الأسر السودانية تفقد بالتدريج إحساسها بالجدوى. وما الاقتصاد في جوهره، إلا سلسلة من الأفعال الإرادية المشروطة بالثقة. وحين تنهار الثقة، يتحول الاقتصاد إلى هياكل جامدة، بلا روح أو دافع.
اللافت في التجربة السودانية أن هذا الإحباط لا ينبع من الفقر وحده، بل من الإحساس بالعجز الجماعي عن التغيير. لقد كانت ثورة ديسمبر تمثل ذروة الأمل الشعبي، بوصفها مشروعاً لتغيير سياسي، لكنها سرعان ما أُجهضت بأدوات معروفة، ليجد المواطن نفسه أمام انقلابات متكررة، وحروب أهلية، وتفكك مؤسسي، وغياب للعدالة الانتقالية. في مثل هذه البيئة، لا يمكن الحديث عن استقرار اقتصادي، حتى لو استقر سعر الصرف. إذ أن الفوضى النفسية تولّد فوضى اقتصادية أعمق، خاصة إذا لم يتم الاعتراف بها ضمن تحليلات الاقتصاد الكلي. فكيف يمكن بناء إنتاج زراعي حين يهاجر الفلاحون بحثاً عن الأمن؟ وكيف يُنتج المدرس حين يُضرب راتبه وكرامته في آن؟ وكيف ينهض القطاع الخاص إذا كان يعمل داخل منظومة يغيب عنها الأمل ويقودها الارتجال؟
ما يحتاجه السودان اليوم لا يقتصر على سياسات اقتصادية مرنة، بل على “علاج جماعي للاكتئاب الاقتصادي”، من خلال مشروع وطني يُعيد تعريف الجدوى، ويزرع الثقة في المؤسسات، ويكسر دوائر الفقد واللايقين. وهذا لا يتم بالتوجيهات من أعلى، بل بالاستماع من القاعدة، وإشراك المجتمع في إدارة اقتصاده، ومنحه سبباً للإيمان بأنه ليس وحده، وأن الدولة لا تُعاقبه حين يطلب الحياة.
حين ينهار الأمل، لا تتوقف الأسواق فحسب، بل يتآكل الانتماء نفسه، ويتحول الاقتصاد إلى جغرافيا للنجاة الفردية بدل أن يكون مشروعاً للتنمية الجماعية. ومن هنا، فإن إنقاذ الاقتصاد يبدأ باستعادة المعنى، والاعتراف بأن الشعوب التي تفقد الأمل، تفقد بالتبعية القدرة على الإنتاج. فالسؤال الحقيقي ليس كم نملك من المال، بل كم نملك من الحافز. وهل ما زال فينا ما يكفي من الأمل لنبدأ من جديد؟