ثورة ديسمبر المزروعة في الصريف والمسقية بلا خريف

هناك دائما جاذبية تحدو بي للكتابة عن ثورة ديسمبر المجيدة بأرواح الشهداء والمقدسة بدمائهم ، ولكن في كل مرة يعجز القلم عن الوصف وتعجز القريحة عن الإتيان بما يناسب الحدث من مفردات تترجم الأحاسيس والمشاعر والمعاني….
ولذلك لم أجد سبيل غير أن اخضع هذه الثورة إلى قياسات النقد ومعاييره حتى اتخلص من تلكم القيود الوصفية …. ولا أقصد بمقاييس النقد تلك الحدة النقدية ولا ذلك التمييز الفائض عن المعنى ولا العبارات المنمقة بل تلكم الصافية التي تتمسك بواقعية المنهج وتجريد الفكرة النقدية من حيث ان ثورة ديسمبر هي واقعة جسدت لعلموية الوصف وشمولية المعنى داخل إطار (الحالية) التي تجاوزت حدود الفقر والجفاف ، ودلفت بعنفوان الفعل إلى براحات الفعل الإنساني.
ذلك أن ثورة ديسمبر بوعيها الإجرائي استطاعت أن تتجاوز التعسف الثوري بعلاقاتها الكائنة والتي سعت بنصوصها المتزنة نحو الكلية بتوازن أمثل ما بين الوقائع والمؤثرات لذلك لم تتمكن الرواسب من التعلق بها وبتلكم الوسائل الإجرائية وذلك بفعل الممارسة النقدية المنظمة التي ظهرت بين أواسط الثوار ، حيث كان ثمة وعيٌّ حاضرٌ على الدوام مزج بين الفعل والتنظيم وواقع الحال و بين المنهج الثوري و الأهداف وهو ما يعرف في العلوم الفكرية بالمقاربات النظرية .
كذلك تميزت ثورة ديسمبر المجيدة بمقادير مختلفة منها الاقتراب والاقتران بروح النص الثوري ، وهو ما شكل نوعاً من الإصرار على التمسك بالقرابة بين التنويعات في مظاهر الحراك الثوري المختلفة ( عندك خت ما عندك شيل ) والاعتناء بالتأويل الدلالي الظاهر في نصوص الهتافات الثوري ( ياعنصري ومغرور كل البلد دارفور ) ، وما كان يميز هذا الهتاف الثوري الابتعاد الواضح عن النَظم الاصطلاحي الذي يقترن بالفعل المتعمد ، والاقتراب من البداهة الحسية المرتبطة بالتجربة الحياتية ( ياناس الشاي..الشاي بي جاي ) وهو ميل واضح للسلوك الشعبي المنبثق من النظام الأهلي المجتمعي ، وهو بمثابة تركيز جلي على التجربة الذاتية التي شكلت مجتمعة تلك العلاقات الإنسانية لإنسان السودان وجوهر روحه .

كذلك كان في ثورة ديسمبر المجيدة ثمة نسق للملاءَمة واضح بين التنظيم الداخلي للفعل الثوري، وبين حدوده الفلسفة التخيلية، الأمر الذي أوجد حالة مقلقة للطرف الآخر وما زالت ، بل ان حرب أبريل هذه ليست سوى تأكيد لهذا القلق ، كما إوجد في ذات الوقت موازنة تكاد ان تكون مخيفة لهم ، حيث ان الاختيار الحاسم للموقف الثوري كان لا يتم في تتبع العلامات الدالة فحسب وإنما من خلال العلاقات المزدوجة للدلالة ، وهو نتاج فلسفي للمشروع الثوري فمنذ صدور أول هتاف ظلت (القومية) هي الاختيار الملزم للثوار والإصرار الملحف للنسيج الاجتماعي حتى على مستوى الوظيفة الاجتماعية، الأمر الذي أدرج النص الثوري الديسمبري في مضامين التاريخ الثوري تحت عنوان الإلزام الاخلاقي للقيم المطلقة وهو الإلزام الذي يعتبر أساس للإلزام الجمالي.
ان ثورة ديسمبر ليست مجرد ثورة سياسية كانت تهدف لاسقاط نظام سياسي فقط بل هي كما التاريخ حياة تتضمن حياة.