
في لوحةٍ قاتمة تُعرض على مسرح الأحداث المتلاطمة في السودان، ترتسم ملامح المأساة فوق جبين الفاشر وطويلة، وأخواتهما من مدن شمال دارفور. دقّت الأمم المتحدة ناقوس الخطر، واصفةً المشهد بأنه “كابوس ممتد”، كأنّ البلاد تتهجّى نهايتها بهدوءٍ قاتل. “وضعٌ مروّع”، هكذا وصفه الناطق باسم المنظمة الأممية، ستيفان دوجاريك، حين تحدث عن واقعٍ تتناسل فيه أوجاع الإنسان من رحم الإهمال والنار.
النزوح… الطوفان الذي لا يتوقف
وفقاً لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (OCHA)، فإن أكثر من 600 ألف شخص نزحوا من ولاية شمال دارفور منذ اندلاع النزاع المسلح في أبريل 2023، من بينهم أكثر من 200 ألف نازح من مخيم زمزم وحده، بعد سيطرة قوات الدعم السريع عليه. المخيم، الذي كان يضم نازحين منذ حرب دارفور الأولى في 2003، تحوّل اليوم إلى نقطة انهيار إنساني، حيث يواجه قاطنوه مستويات حرجة من انعدام الأمن الغذائي وفقاً لتصنيف الأمن الغذائي المتكامل (IPC).
تُشير تقارير برنامج الغذاء العالمي (WFP) إلى أن أكثر من 25 مليون سوداني بحاجة إلى مساعدات إنسانية عاجلة، وهو رقم غير مسبوق في تاريخ البلاد، ويُعادل نصف سكان السودان تقريباً.
أزمة في الخدمات… المدن تنهار من الداخل
التدفّق الهائل للنازحين لا يقف أثره عند حدود المخيمات، بل ينهك المدن والبلدات المضيفة، ويُربك نظام الخدمات الهش أساساً. تشير تقارير اليونيسف إلى أن أكثر من 70% من سكان شمال دارفور لا يحصلون على مياه شرب آمنة، وأن 4 من كل 5 مراكز صحية خارج الخدمة أو غير قادرة على الاستجابة.
في مدينة الفاشر، تعمل منظمات غير حكومية على إدارة عيادات متنقلة، وتوفير المياه عبر شاحنات تنقل حوالي 20 متراً مكعباً يومياً لما يُقدّر بنحو 10 آلاف شخص. لكن هل يكفي هذا لتسكين جوعٍ قديم وعطشٍ متجدد؟ الواقع يجيب بالصمت الثقيل.
الفجوة بين الحاجة والاستجابة… اتساع بلا حدود
يُقرّ المتحدث باسم الأمم المتحدة أن “حجم النزوح الهائل وما يصاحبه من انعدام للأمن وقيود لوجستية تُثقل كاهل القدرة على الاستجابة”، مضيفاً أن الفجوة التمويلية لنداء السودان الإنساني لعام 2024 ما تزال شاسعة، إذ لم يتم تمويل سوى 15% من إجمالي المطلوب البالغ 2.7 مليار دولار حتى شهر أبريل.
في هذا السياق، تعمل الأمم المتحدة على إطلاق قافلة إنسانية عابرة للحدود من تشاد، يُنتظر أن تصل إلى 40 ألف شخص في شمال دارفور، لكن هذه المبادرة لا تزال رهينة المخاطر الأمنية والتعقيدات اللوجستية.
النداء الأخير… هل يسمع أحد؟
في ختام بيانه الأخير، وجّه دوجاريك نداءً صادقاً إلى جميع الأطراف المتصارعة، دعاهم فيه إلى احترام القانون الدولي الإنساني، وضمان المرور الآمن للمدنيين، والسماح بوصول المساعدات دون قيد أو عرقلة.
ورغم الضجيج الدولي الخافت، تبقى دارفور جرحاً نازفاً في خاصرة العالم، ومسرحاً لصراع لا يُشبه الحروب الكبرى في تغطيته الإعلامية، لكنه يُشبهها – بل يفوقها – في عدد ضحاياه.