(السَّابِقُ مِنّا الجَوادْ).. في سيِرة (الريّس) عبد الله زِراعة

مجدي علي عبد المجيد

ربما أنّها (العَبْرة) التي ما زالت تَخنِقُ حلقِي وتلجم قلمي، هي التي منعت حرفِي أن يخرجُ أسىً وحُزناً ونوحاً على عبدُ الله زراعة.. فمِثلَه تبكيه البواكي وتندبُ، ويا لهف نفسي عليه وبدرهُ اليوم يغرُبُ..
“ما الذي أقسى من الموت” كما يقول صلاح أحمد إبراهيم؟!
فها نحْنُ بموتِ عبد الله محمد الحسن قد كشفْنا سرَّه واستسغَنا مُرَّه، وأيقنّا حقّاً أن “النِّاسَ لِلْمَوتِ كَخَيْلِ الطِّرَادِ، السَّابِقُ مِنها الجَوادُ.. وَاللَّه لا يَدْعو إلى دارِهِ إلاَّ مَنِ اسْتَصْلَحَ مِن ذِي العِبادْ.. وَأنّ المَوْتً (نَقَّادٌ) عَلى كَفِّهِ جَواهِرٌ يَخْتارُ مِنْها الجِيادْ”.. وإنِّا لنَشهدُ أن عبده، عبد الله قد كان من الجِيادْ..
لم يكنْ من السهلِ في ذلك الزمان، في مجتمع الطلاب السودانيين بالعراق، الذي إتسمَ يومها بالوعي والدراية، أن يُجمِعَ الناسُ أو يتوافقوا على شخصٍ يعتلي رئاسة رابطتهم الطلابية العريقة ما لم تتوافر فيه صفات (المُختلف).. وعبد الله كان مختلفاً..
“كان سمحُ النفسِ بسَّامَ العشيّاتِ.. وفيٌ وحليمٌ وعفّيُ، كالأنسامِ روحاً وسَجَايا.. أريحيُ الوجهِ والكفِ افتراراً وعطايا.. فإذا لاقاك بالبابِ بشوشاً وحفيّاً، بضميرٍ ككتابِ الله طاهر..”، ومنذ جاء إلى العراقِ تقدّم الركب واقترن اسمه بـ(الريّس)، وتزين وصفه بأبهى رؤوساء اللجنة التنفيذية لرابطة الطلاب السودانيين بالعراق، وأشهرهم وأنجحهم لعدّة دورات..
ما من طالبٍ مرّ بالعراقِ إلاّ وكان لعبد الله زراعة في حقّه فضلاً وفي عشرتِه حكاية.. لا ينافسه أحدٌ في مرتبة الذين اختصّهم الله بقضاء حوائج الناس وحبّبهم إلى الخيرِ وحبّب الخيرَ إليهم.. حدّثني هو ذات لحظة اجترار لذاك الماضي التليد من ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي أنه كان يومها يحفظُ أسماء أكثر من ستمائة طالبة وطالبة، ويعرفُ مناطقهم وأهاليهم، ويعلم ظروفهم وأحوالهم كما أنهم من أبنائه..
يجزمُ الذين عاصروا عبد الله وعملوا معه في قيادة الرابطة في تلك السنوات العصيبة من مسيرة النضال الوطني، أن ساحات الطلاب السودانيين بالعراق كانت مسرحاً لصراعٍ فكريٍ محتدم واستقطابٍ سياسيٍ حاد، غير أنّ الرجل كان رمانة الميزان، بأصالته وبساطته ولطفه وأخلاق (ود البلد) و(حلّال العُقد)، لم يُعرف له إنتماءٌ أو لونٌ أو تحيّز، ولم تُعرف له (شلّةُ) أو خواص، كان يتقنُ فن الاحتفاظ بمسافة يتساوى فيها عنده الجميع، كان أخاً وصديقاً لكل الناسِ بلا رياءٍ أو إدعاءٍ، حتى ليحسَبُ كل شخصٍ من مودّته إنّه إليه الأقرب، وإنّي لأعجب كيف لبشرٍ بكل هذه السِعة من محبّةِ الناسِ واتفاقهم حوله في أحلك الظروف وأعقدُ الخلافاتِ.. وأظنّ قد صدق وأصاب صديقي أحمد مختار حين قال: إنّ عبد الله زراعة قد ترك لنا في العمل النقابي والاجتماعي إرثاً متفرّداً ينبغي أن يُدرّس..
أسعدتني أقداري بالعمل النقابي والاجتماعي برفقة ثلة من أخيار خريجي العراق تحت قيادة الراحل عبد الله محمد الحسن بالسودان، فأنا لم أحظْ برفقته في العراق، ضمّتنا يومها راية تمهيدية رابطة خريجي الجامعات والمعاهد العراقية في خطوات تأسيسها وقد كان الراحل أحد رواد فكرتها، ثم لجنتها التنفيذية لثلاث دورات بعد ولادتها، وظلّ عبد الله كما هو، (الريّس) وحاملُ اللواء الذي لم تهِنْ عزيمته أو تفتر برغمِ السنون، وقد أتاحت لنا تلك الدورات أن نعرفه عن قرب، ولأن من رأى ليس كمن سمع، فإنّ شهادتنا فيه لن تأتِ مجروحةً ولا باطلة، وستظلّ الذاكرة تحفظُ له سجاياه وأفضاله بسهام لم تكنْ قطُ قليلة، ومواقف محفورة لا تنسى، فقد كانت داره العامرة بمدينة جبرة، ومكتبه بالسوق العربي ملتقىً وقاعة اجتماعات، لم يبخلْ بوقتِه ولا جُهدِه ولا مالِه حتى تأسست الرابطة، كان حريصاً أن يظل وعاء الرابطة جامعاً لكل الخريجين على اختلافاتهم، وأن يظلّ عطاؤها مبذولاً لكلِ محتاجٍ وملهوفٍ وغارمٍ وسقيم، كلما جادلناه في تصرّفٍ فردي تُثبتُ لنا الأيام أن ما فعله لم يكن إلا الواجب والصحيح.. تعلّمنا منه مجامعُ الأخلاقِ الحِسان، الكرم وطولة البال والصبر وسِعةُ الصدرِ في تقبّل الناس وتجاوز الصغائر، درّبنا على العمل النقابي على طريقته في السهل الممتنع، علّمنا معاني السعي لفعل الخير دون انتظار.. وإن كان المرءُ بالأخلاقِ يسْمُو ذِكْرُهُ، وبِهَا يُفضَّلُ في الوَرَى ويُوَقَّرُ، فإنّا نشهدُ أن عبد الله مِمْن سْمَا ذِكرهُم، وإنّه مدرسَةً متفرّدة في العطاء لزملائه وأهل منطقته من الولاية الشمالية الذين كان بينهم أيضاً قائداً و وملاذاً و(ريّس)، يَألفُ ويُؤلف، وتطيِبُ بِرفقتِه الحياة..
هل تراني قد أوفيت الرجل بعضُ حقه.. لا والله، فإنّ فداحة خسارتي فيك يا عبد الله أوسع من كل حروفي وقدرتي على التعبير.. فحياتك العامرة كانت أطول من أن يحتويها مقال، تعجز الكلمات أن توفيك وصفك، ويعجز القلب أن ينسى صحبتك وكأنني أعرفك منذُ الأزلِ.. وأنّي لأدعو ربي، موقناً بقول المصطفى عليه صلوات ربي وسلامه “إن أحبُّ الناسِ إلى الله تعالى أنفعهم للناس” أن يجعله من الآمنين يوم القيامة بقدر ما أحبّه الناس وفزعوا إليه في حوائجهم..
نسألك يا الله أن تتغمّد عبدك الفقير إليك عبد الله محمد الحسن بواسع رحمتك ورضاك، وأن تجعل عشرته الطيّبة وعمله الصالح شفيعاً له، وأن تجعلنا من المقتدين به سعياً بين الناس، اللهم أنزله منزلاً مباركاً، وارفع درجاته في الفردوس الأعلى، وألهمنا يا إلهي وأهله جميل الصبر وحسن العزاء.. وبارك اللهم في زوجته هند وذريته، واخلف عليهم وفيهم بالبركة والخير.. إنا لله وإنا اليه راجعون.