
عندما تنحسر سحب الدخان عن المدن المحترقة ويهدأ صخب الرصاص ولو موقتا يخرج البعض لاستدعاء الاستيكة لمسح وقائع الأمس القريب وإعادة رسم الأحداث على هوى المنتصر يراد للقتلة أن يصبحوا أبطالا وللمقاومين أن يكونوا خونة وللثورة أن تختصر في نزوة سياسية عابرة كان لا بد من وأدها على مدى العقود الماضية ظل السودان يدور في حلقة مفرغة حيث ينقلب العسكر على المدنيين بحجج مكرورة عن إنقاذ الوطن ثم يعود الشارع ليطالب بالحرية والعدالة ليقابل بالقمع والبطش في كل مرة، يكون هناك من يُحاول أن يعيد كتابة الرواية لصالح الطغاة غير عابئ بدماء من قضوا ولا بأنين المشردين والجوعى الذين فقدوا كل شيء حين خرج السودانيون في ثورة ديسمبر كانوا يدركون أن الطريق شاق لكنهم آمنوا أن لا مفر من كسر دائرة الاستبداد وحين قرر بعضهم التفاوض بعد مجزرة القيادة كان ذلك بحثاً عن طريق يجنب البلاد المزيد من النزيف لكن ذات النزيف عاد بانقلاب جديد ثم بحرب ضروس التهمت الأخضر واليابس ومع ذلك لم يتغير السرد الرسمي لاصوت يعلو فوق صوت البندقية المدنية خيانة الديمقراطية رفاهية لا تناسبنا الآن الحقيقة التي يحاول البعض طمسها أن السودان لم يكن يوما في مأمن من بطش العسكر ستة وخمسون عاما من الحكم العسكري لم تجلب سوى الانقسامات والخراب والحروب الأهلية المتجددة والآن بعدما احترقت الخرطوم وتشرد الملايين لا يزال هناك من يروّج لفكرة أن الحل في المزيد من العسكر وكأن الطريق إلى القاع لم يبلغ منتهاه بعد لكن التاريخ ليس سطورا تكتب بمداد السلطة بل ذاكرة جماعية لا تمحوها محاولات التزييف فكما انتفض السودانيون في أكتوبر وأبريل وديسمبر وكما قاوموا القمع والسحل والقتل سيواصلون السير في طريق الحرية حتى النهاية لأنهم يدركون أن العدالة وحدها هي التي تؤسس لمستقبل مستقر لا القهر ولا التزوير
الاستيكة لا تمسح الدم والذاكرة الحية لا تخدعها دعايات الطغاة.