ثم ضاعت وانطوت

دكتور معاوية الشفيع

لمحتها، هناااالك، في مطار أتاتورك، الضاج بالحركة والأصوات، والأضواء، تجاهلتها، يا لي من كذوب، هي تجاهلتني،.. وظلت -طوال فترة مراقبتي لها، التي جاوزت ال47 ثانية- تنظر من خلال زجاج يطل على المدرجات، تصفعه حبيبات المطر الخفيف، الذي يلطف اسطنبول في هذا الوقت من كل عام، لكنه -أي المطر- يجعل الرؤية غائمة، والرؤيا -إن كان ثمة رؤيا هناك- نائمة أو هائمة.. رؤياها، أم رؤياي؟؟
لا أحب المطارات، منذ أن غنى، مصطفى: (مطارات الوداع ضجت، قدامك، وراك).. لماذا الوداع دائمًا؟ … مافي مطارات قدوم واستقبال وترحاب، في الغنا، يا مصطفى ؟، لم أحب مطارًا في حياتي. وهل هنالك من يفعل؟؟ … أكره “هيثرو” -المطار الذي ينام باكرًا- ليس فيه أي مسحة جمالية، هو مطار يؤدي وظيفته فحسب، ويعكس عدم ترحيب البلد، بك… ما علينا….. أفلتت مني آهة، ردتني إلى أرض الواقع، نظرت حيث كانت تنظر، بقايا طائرة، مهيضة الجناح، ركلها الزمن-أو أجيال من جنسها، جديدة، وجميلة- فانزوت بعيدًا… ثم نظرت إلى حيث كانت “هي”، وجدتها قد اختفت، تملكني ارتياح، إذ انزاح عن كاهلي عبء الذكريات …أعاني كثيرًا من ذاكرتي، ليس من عطب فيها، ولكن – ولعلكم تعجبون-، من حدتها…”ذاكرة فيل”، يقول صديقي.. لا أدري لماذا لم يسمِّ الفنان الفريد-النور الجيلاني- أغنيته اللطيفة، “خواطر فيل”، بـ”ذاكرة فيل”؟؟، حتى هذه لها في ذاكرتي مكان.. كنا في سجن “كوبر” عندما يأتينا معتقل جديد، نحاول أن نتعرف به، و”نتطقَّس الشمار”، ونرى ماهي “الغلطة” التي رمت به في هذا الجب.. المعتقل الجديد عادة ما يكون متحفظًا، يشك في ضلُّو.. (نجح الطفابيع في غرس اللا ثقة بين الناس، كانوا يقولون، أنه -حتى بين المعتقلين-، يوجد “غواصات”)، المهم، كنا عندما نسأل تعيس الحظ الجديد، ذاك، يقول: أنا زاتي ما عارف جابوني هنا ليه.. فننطلق في غناء مفاجئ، عاصف، ضاحك: جابوني ليه ليه؟، عايزني، أعمل إيه هنا؟؟
ليس في ذاكرتي مساحة رمادية، تتذكر “نص، نص”، لكن فيها جحر-كثقب أوزون-لكنه “صغيروني”، لرمي الطوب….. السعيد الذي “أرمي طوبته”، تختفي معه ذكرياتنا المشتركة، إلى الأبد كأن لم تكن، ولو سألتني عنه-بعد ذلك- يمكن أن أقول لك-صادقًا-: مين زكي جمعة؟؟
كانت في انتظاري، في مطار “واو”، عندما حطت طائرة “يونيسيف” الصغيرة، في المدرج غير المسفلت، بل مفروش بتراب أحمر كالذي يحبه، قصب السكر، -إن افترضنا أن للقصب مشاعر-، الهواء الذي أثارته “الطويئرة”، أثناء هبوطها، بعثر خصلات شعر مستقبلتي، تذكرت “محمد كرم الله”:
النسيم غازل ضفايرك، بعثرا، وغيَّر نظاما
ثغرك الدر المكمل، منو حيَّتنا ابتساما
(واو)، و(wow)، أهذه من تلك؟؟ أم تلك من هذه؟؟
مدينة جميلة ساحرة، طبيعة عجيبة، كنت أنظر من نافذة العربة، بينما أنا جالس مع السائق، جلست هي في المقعد الخلفي-عكس أعراف المنظمات، التي تقول بأن الضيف، يجب ألا يكون بجوار السائق، وليس كنُظم العسكر-لعنهم الله- التي تقول بأن الرتبة الأعلى تجلس في الأمام، وإلى الخارج، لا لتقود، ولكن لتتلقى التحية العسكرية، عجبي-.
المهم أننا مضينا كما وصفت… رأيت كنيسة جميلة.. رأيت مسجدًا، حديث الإنشاء…. مركز صحي قديم، (من زمن الإنقليز)،.. وسينما، كل هذه في انسجام، أو قل عدم تناقض، مع الأشجار، الحشائش، الجو الغائم، والمبشر -لماذا يقولون المنذر؟ – بالمطر… فجأة صرخت-أنا – في السائق أن يقف، وأشرت إلى ثمار بيضاوية صفراء ملقاة على جانبي الطريق… توقف الرجل، بهدوء، وأنا أسأله:
-دي منقة؟؟
من خلفي، جاءني صوتها، مرحاً، تزينه بحة محببة:
-آي يا منقة، دي منقة.. هنا، الشفع بلعبوا بيها زي كورة “الشُّرَّاب”…
ثم واصلت لعب دور الدليل، في مكان كان -بالنسبة إليّ- من المجاهل… أنصتُّ، دون تعليقات أو أسئلة، كتلميذ نجيب، أكان ذاك عشقاً للصوت، أم حبَّاً في المعرفة؟؟
عمل المنظمة كان محفوظًا لي، روتينيا، مملاً، بعده كنا نتغدى سويَّاً، ثم نتسامر على أنغام القهوة… اختلفنا واتفقنا، تحاورنا… تشاجرنا.. ضحكنا، وعبسنا.. ولم يغب شيءٌ عن حواراتنا، السياسة والدين، الحب، والثورة.. الفن وهوليوود، كرة القدم والتنس، إيلون ماسك، وثورة التكنولوجيا، -التي رغم أنها كسرت احتكار السلطة للمعلومة وجعلتها مبذولة للكثيرين-، لكنها تحولت، -بقدرة قادر- إلى أداة خطيرة، في يد الإعلام يسوقنا -عن طريقها- بالخلا.. نظَّرنا… حتى قراهام هانكوك، و “سادة الفقر”، وتلك الكاتبة، التي قالت، بأن الإحسان(charity)، يعطِّل الثورة، لم يفلتا من تشريحنا… وحين نصمت، – لارتشاف القهوة-، كنت أسرح، وأتذكر:
كانت تدعوني بالرجل الرملي
وأناديها بالسيدة الخضراء.
وتلاقينا في زمني الشفقي
وتنادينا في مرح طفلي
وتعارفنا في استحياء
وتحسس كل منا -مبهورا-
ألوان الآخر، وتبادلنا الأسماء*
لا أبالغ، إن قلت أننا لم نحتج لأكثر من أيام ثلاث، لنشكل زوجاً مثالياً منسجماً، في تناغم فكري، وجسدي ندر وجوده بين اثنين، -كما قدرنا-، جُبنا المدينة، طولا وعرضا، وطفنا أريافها القريبة، تعرفنا إلى الناس، وبمرور الوقت صاروا ينظرون إلينا، كزوجين، ربما هم يفعلون ذلك مع كل موظفين ياتونهم كثنائي، امرأة ورجل، لكنهم كانوا يتعاملون معنا، كزوجين متفاهمين، متحابين، سألتها إن هي لاحظت ذلك، فقالت-وابتسامة غامضة، تحوم حول شفتيها، ولا تحط عليهما:
– in a way, may be they are right.
دامت بيننا هذه الحال، لشهرين، مرا سريعًا، كالحلم مع الفجر..
ذات ليلة حالكة الظلام، ماطرة، ذات رطوبة لزجة.. وكان كل منا ينام في المكان المخصص له، من سكن المنظمة، هي في جناح الإناث، وأنا مع الرجال، -بطبيعة الحال- … (لم يطل ليلي، لكن لم أنم)* بعد…. سمعنا أصوات رصاص… لم أنزعج كثيرًا، فقد كنت أعلم أن الحركة المتمردة، ومليشيا تناصر الحكومة، تصفيان حساباتهما -أحيانا – ليلًا…. في أطراف المدينة ….. أرخيت أذنَيَّ وأرهفت السمع.. أثناء ذلك سمعت أصواتاً قريبة جدا، كان الظلام دامساً، أزحت (شيش) النافذة ونظرت، كان هنالك من يحمل مصباحاً كهربائيًا، ورأيت حارس مبنى المنظمة وهو يرتدي حلته، بيضاء القميص، زرقاء البنطال، كان حامل المصباح يتحدث معه همسًا، سمعته في سكون الليل، ذكر الأول اسمي، وسمعته يقول: لا داعي لتشغيل الجنريتر، وإضاءة المكان… ارتعت… ارتعبت.. (الله، ديل كلاب الأمن، الليلة اتذكروني من وين؟؟)
قفزت من النافذة، وجريت بين الأشجار ، آخر ما سمعت كان صراخها… تناديني.. تناديني… باسمي نادتني، والبحة في صوتها مختلطة بالخوف.. لكني لم أتوقف، بل أسرعت الخطى…”حسبتها في رأسي”، سيعتقلونها، ومن تبقى معها من موظفين، سيرسلونهم إلى الخرطوم، سيطردون المنظمة، والحجة جاهزة، التعاون مع المتمردين…. واصلت السير حتى آلمتني قدماي، وأذناي -من صدي صوتها/ندائها الذي ما يزال-إلى لحظة الكتابة هذه- يرن فيهما، وآلمني قلبي، بطبيعة الحال، (وأيضا كذلك) ضميري…
جريت وجريت، طعنتني أشواك، قرصتي حشرات، أرهبتني أشباح، وطيوف، مزقت حذائي، -وأسفل بنطالي-، جذوع شجيرات مدببة، لكني لم أتوقف… رغم صوتها… لم أتوقف… لم أكن أدر إلى أين أتجه.. نظرت إلى السماء، علّي أجد النجم الذي يهدي إلى الجنوب- لا الشمال- لم يهوِ بعد.. لكنا كنا -كما أسلفت- في ليلةٍ، كفَر النجوم، غمامها، بتعبير ابن ربيعة العامري… حلمت أن أجد معسكراً للمتمردين، قريب، كنا نقصدهم فيه، فيقتادوننا إلى بعض قراهم، لنقوم بتطعيم الأطفال….. الآن …. عجزت عن الجري، فسرت بطيئاً، مثقلاً -حرفياً- بجراح صغيرة، لكنها دامية… عجزت عن السير، فجلست لا أدري على ماذا.. غالباً أوراق أشجار جافة بللها الندى، أو المطر، أو -ربما- (مخرجات) بعض الحيوانات….
تذكرت -فجأة-، أنني أحمل هاتفي النقال، أضأته، يا الله، أنا تحت شجرة منقة، داهمني الجوع لحظة رأيت ثمارها المنطرحة على الأرض… تذكرتها.. وتذكرت كلامها ذاك.. لكن “عصافير بطني غرّدن”، فالتهمت-دون غُسل- لا أدري كم “منقاية”. ليتضافر الشيع مع التعب، فينتجا نعاسًا، لا تمكن مقاومته………
صحوت، وشيء يحجب عني “رقراق” ضوء الشمس الذي تسرب من بين أغصان الشجر.
فتحت عيني، فرأيته، مارد أسود يرتدي ملابس عسكرية، نظرت إليه برعب وأنا أحاول الجلوس، لكنه ابتسم عن أسنان نضيدة ناصعة البياض، وقال:
-انت ما تخاف.
-انت منو؟؟
-أنا؟؟ نحن متمردين.
وضحك، لكنني، تنهدت في ارتياح.
-ياخي أنا بفتش ليكم،
معسكركم قريب؟؟
-خمسة دقايق من هنا.
-ممكن تسوقني هناك؟؟
-انت منو؟؟ استخبارات جيش؟؟
-لا ياخي، أنا بتاع منظمة….
-عارف.. شفتك في “واو”،
يللا…
في نيروبي، عرفت أن ما خمنته قد حدث، طردت منظمتنا في البلد، وعادت (هي) إلى المقر في اسكندنافيا، أعرف رقم المقر، قالوا إنهم قلقوا عليّ كثيرا، حتى أعلن المتمردون إنيْ تحت حمايتهم… لم أكن أعلم ذلك… سألتهم عنها، أعطوني رقمها…. فورا، اتصلت بها:
-ألوووو.
-حمدا لله على سلامتك.
-أشكرك ، كيفك إنتي؟؟
-كويسة….
-مشتاقين.
-باللهي؟؟
هالني برودها، وخمول صوتها.
-مالِك؟؟ في شنو؟؟
-مافي حاجة، معليش، أنا مشغولة… باي.
تيت… تيت.. تيت…. انقطع الاتصال.
سارعت إلى الاتصال بصديق مشترك…. حاول التسويف والمماطلة، قلت:
-… حصل ليها شنو؟؟
-من ياتو ناحية؟؟
-من ناحيتي.
-كدي، هسه حمدالله على السلامة، لحدي ما نتلاقى.
-ياخي ألحقوني بمكتب نيروبي، وبرمجوا سفري، بعد تلاتة أسابيع ، ما بقدر أنتظر، عشان أعرف ..
-يازول، أقول ليك، -بس ما تدبرس- قالت علاقتكم انتهت..
-فهمت كده، من برودها خلال الاتصال. لكن ليه؟؟
-قالت انت اتخليت عنها.
-اتخليت عنها كيف؟؟
-انت ما اتخليت عنها يعني؟،
مش خطبت واحدة قريبتك؟،
-ما حصل… والله ما حصل…
-كان كده أسألها هي.
تيت…. تيت… تيت، انقطع الاتصال…
لن أصف لكم كيف صار حالي بعد مكالمة الصديق، لأنني أنا، نفسي، لم أكن أعلم حالي، المهم أنني سارعت وعاودت الاتصال بها، في المرة الخامسة ردت عليَّ، بنفس ذلك الصوت البغيض، أبغضه كلما تذكرته، حتى الآن…
-نعم.
-صحي كلام (….) ده؟؟
-قال ليك شنو؟؟
-إنتي منو القال ليك، أنا خطبت؟؟
-مافي زول قال لي.. ويا أستاذ، ما تتعب نفسك، أنا نهيت العلاقة دي، لأنك هربت، خليتني للأمنجية وهربت.
-دقيقة أشرح ليك.
-خليني أكمل.. ناديتك.. كوركت ليك، صرخت باسمك….
صمتت، ثم جاءني صوت نحيبها.. موجعا.. كان… مزق نياط قلبي…..
-يا بت الناس أسمعيني، أنا هربت لأنيْ مطلوب لأنو.. الأمنجية… ولأن المنظمة بتحميك.. و….
و…..
انتبهت لـ تيت تيت تيت، إذن فهي لم تسمع شيئا، من تبريراتي، وحكايتي….
وما زلت أبرر وأحكي لنفسي، وللمصطفين من أصدقائي، ندمائي، وأختم دائما ب:
وتفرقنا
…..
لكني أذكر أنَّا -ذات مساء-،
كنا قد خادعنا منجل حصاد الموت
غافلنا صيحة ديك الوقت
وطبعنا فوق جدار الليل
تخطيطًا يشبه ظلينا،
لونين مزيجين
مسكوبين، على طرف وسادٍ، متجعِّد
منهارين على مسند مقعد…
ها أنت تراني أتملَّي هذي اللوحة
في أيامي الجرداء…
ربما ذاك، بعض ما رأيت، في مطار كمال اتاتورك، باسطنبول، وخلتها كانت هناك… ذهبت إلى زاوية في المطار، وصحت في النادل:
أفرغ للوحة كأسًا، أرجوك.
هذا إجمال القصة. *
–تمت–
_____________________
* الأبيات للشاعر المصري العظيم: صلاح عبد الصبور.