
دكتورة توتا صلاح
كانت السماء تلتحف رداءً من الغيوم لم تَجرؤ أن تخترقه شمسُُ بَدَتْ خجلى منكمشة ……
سارَتْ بخطوات وَجِلة، مُتَعَثِرة في طريقٍ أذهلها أنه كان يَكْتَسِي بحبيبات سوداء لامعة تَوَهَمَتْ للحظات أنها حبات “عقيق أسود” ذلك “الحجر الكريم” الذي وُصِفَ أنه يُسْبغْ جواً من السحر الفاتن والغموض أنٌي حَلٌ !!! لكنه في تلك السانحة كان يُشَكِل مشروع تَعَثُر وسقوط وربما كسور في الأطراف إذا لم يُتَوَخَ الحذر !!!!!
لم تكن وقتها تعلم أنه ال”black ice “ أو الثلج الأسود كما يسمونه !!!!!!!
ما كان لها إلا أنْ تتوخى حذراً أكثر فقد كان النعل الخارجي لحذائها أي الجزء السفلي أمْلَساً ، غير مُصَمَمٍ للسير في الجليد حيث كانت في باكر بواكير هجرها للوطن المغدور حين جثم على صدره “هؤلاء” فصادروا حتي الأحلام !!!!!
احْتضنتها مدينة إدنبرة ذات صبحٍ شتائي موحش عزفَتْ فيه الريح سيمفونية حزن باذخة شابَهَتْ ما كان يمور بدواخلها من لوعة وجوى …..
المجئ إلى ادنبرة كان خياراً أملاه وَطَنُُ جعلوه طارداً قاسيا فَشَكٌل إكمال مشوارها المهني / الأكاديمي حَلاً مؤقتاً لمأزق البقاء فيه حيث يتوارى الأمل خجلا تماماً كشمًس شتاء مدينة ادنبرة !!!!!
ادنبرة …… عاصمة اسكتلندا الوطنية…… مدينة ذات ائتلاق وفرادة تتَبَديان في ارتكانها للتوسط وتنائيها عن جنون المدن الكبيرة …. فلم تذهب شططاً !!!!! هي ليست مُمْعِنة في الكبر والاتساع…..كما أنها لا تتوارى انكماشاً إذ تحتل الترتيب السابع في المدن البريطانية وبعدد سكان يترنح قليلا دون نصف المليون !!!!
تَتَزَيَن مدينة ادنبرة بمناخ معماري مميز يميل إلى الاعتدال ويجافي العلو الشاهق !!!!!
وتتباهى بقلعة عتيقة Edinburgh castle تَعْبِق شموخاً وصموداً منذ القرون الوسطى وهي تتوهط قمة صخور جذلي !!!!!
واصلتْ سيرها المُتَعَثِر وهي تصوِب نظرة حانية على “كلية الجراحين الملكية” التي تقبع بكبرياء في شارع “نيكلسون ستريت” بإرث يحفر في تاريخ العلم نفقاً يمتد لخمسمائة عام ونيف مضت، حينها كسا وجهها شبح ابتسامة عنيدة فقد كانت تعني لها تَحَدياً وحلماً في زمن موسومٍ بالانكسار، كانت الحلم في زمن الحزن !!!!!
لَفٌتْها سحابة أسى وهي تجتر ذاكرة الحنين لوطن لَفَظها كما لَفَظ غيرها ودواخلهم تمور بوهج “انتفاضة” رؤاه ينسرِب في “ديمقراطية” هشة تَم وأدها بانقلابٍ عسكري مِنْ “هؤلاء ” حين أتوا وهم يبشرون زوراً ب”مشروعٍ حضاري” لم يَكُن إلا “حِملاً” كاذباً تمخض عن”مشروعٍ تجاري ” بِيْع فيه الوطن وقُبِض الثمن!!!!!!!!!!
ابتسمتْ ثانياً وبمرارة أشَد حين تذكرتْ البرنامج الإذاعي (الحديث السياسي) ل”الرائد يونس” وهو يرغي ويزبد بأحاديثَ تنطلق كل صبحٍ من جهاز “الراديو”الكبير في قلب المنزل حتى تكاد أن تحطمه بارتفاع نبرتها وجسامة حدتها !!!!!!!!
كان بوقاً ل”الإنقاذ” يُزَيِنْ سوءاتها ويُجَمِل شوهاتها ً!!!!!!!!!!
هَمَسَتْ لنفسها أن إحدي مزايا سفرها أنها لن تسمعه !!!!
كان بعضُُ منها يبحر هنا وبعضُُ أكثر يُحَلِق هناك في الوطن المالح….. وهي تواصل شق طريقها إلى “بامز هاوس” PAMS أو اليونيون ( دار الاتحاد) كما كان متعارفاً عليه مِن قِبَل رواده و هو اختصار ل post graduate and mature student union
كان”اليونيون”يحتل بناية 22 Buccleuch Place لم يكن يبعد كثيراً عن نيكلسون ستريت الذي يأتَلِق به جامع ادنبرة المركزي … “central mosque”
وأيضاً تقبع به جامعة ادنبرة العريقة التي كان “اليونيون” جزءا منها .
“اليونيون” وما أدراك ما “اليونيون”!!!!
كان بناية ذات ثلاث طوابق، الطابق الأرضي لم يكن يعنيها فقد كان “باراً ” تحتله حياةُُ أخرى لبعضهم في “الويك اند”!!!!!
الطابق الأول كان به مطبخ واسع يحتفي بتنوع ثقافي باذخ يتجلى في الأطعمة المختلفة التي يعدها مرتادو اليونيون . تتوسط هذا الطابق غرفة للجرائد بها كثيرُُ مِن الصحف الورقية التي كانت بلا شك متنفساً فالزمان لم يكن قد وطأ بعد عصر “الاونلاين” و الصحف الإلكترونية !!!!!
كانت هنالك أيضاً بهذا الطابق غرفة للعب “الاسنوكر”.
أما الطابق الثاني فكانت توجَد به غرف للدراسة study rooms وأيضاً غرفة للموسيقى.
كان جَلْ مرتادي”اليونيون” من الطلبة الأجانب الذين يُشَكِل السوانيون الـمُبْتَعَثون من أساتذة جامعات وأساتذة مدارس كَماً منهم ليس باليسير ،ثم تأتي مجموعة الأطباء الذين كانوا يتقاطرون إلى ادنبرة لأداء الامتحانات.
كان بعض ذوي الدعابة يُقَسِم رواد اليونيون من الأطباء السودانيين إلى قسمين “ثلة المترفين ” الذين عَمِلوا بالسعودية وتبدو على سيماهم علائم االدِعة !!!!!
ثم ثلة الكادحين الذين على وجوههم قترة” حضروا من السودان محملين بالأحلام
والهموم
وجوى القلوب
مع……خواء”الجيوب”
كانوا يحطون رحالهم ب”اليونيون” صباحاً ولا يغادروه إلا وقد امتد الليل كثيراً فيدرسون ويتبادلون اخبارٍ وطنٍ تركته أجسادهم وتناثرت أفْئدَتُهم هناك على ترابه !!!!!
لم تكن تلك المرة الأولى التي ارتادت فيها ذلك الطريق الذي يؤدي ل” اليونيون”……لكن ذلك اليوم لم يماثِل القليل قبلها من الأيام بل أتي مميزاً، ممهوراً بالاختلاف !!!!
تلفَتت بدهشة يميناً ويسارا. ثم أمامها وخلفها وما فوق ذلك وما دونه !!!!!!
فلم ترى إلا بعض أناسٍ يختبئون داخل معاطف ثقيلة بألوان داكنة لا تزيد المشهد إلا قتامة، كانت أياديهم تمسك بذلك الرفيق الذي لا يمكن هجره في شتاءات أدنبرة فزخات المطر ترشق بلا إرهاص أو “سحاب شايل ” هي تماماً كالقَدَر تأتي عندما يَعُن لها أن تأتي !!!! وهكذا لم يكن ل”مظلة المطر” إلا أن تتبوأ رمز الرفيق اللصيق !!!!!
تلفتتْ مرة أخرى وقد سَرَتْ في دواخلها رَعْشة هزتها بعنف فتسارعت ضربات قلبها حتى كادت أن تغطي على صرير الرياح حولها …….. خالجتها أحاسيس تداخلتْ فيها ذاكرة الأمكنه وتَشابَكَتْ حين تَنَسَمَتْ تلك الرائحة المألوفة المُحَببة !!!!!
اهْتَزَ جفناها كسحابة داعبتها ريح خفيفة ثم هطلت دمعاً غزيراً جَهَدَتْ أن تمسح بعضه سراعاً قبل أن تدلف إلى داخل المبنى وهي تخاطب أول مَن قابلها مِن زملائها السودانيين حتى قبل أن تلقي عليه السلام :
“و الله العظيم دي ريحتو ذاتا ” وتردد
و “الله العظيم شميت ريحتو”
سألها وقد علته الدهشة ” شميتي شنو يا بت الناس؟ ”
واصلت ” و الله شَميتْ ريحة عواسة آابري في ادنبرة”
ضحك كثيراً حتى كاد أن يستلقي على الأرض وهي تنظر إليه بعينين ملأتهما دهشة وحيرة مَنْ لا يكاد يفهم ما يدور . لما تمالَك نفسه خاطبها قائلاً ” تعرفي دي ما ريحة “عواسة آبري ” دي ريحة بيرة” ، إنتي ما عارفة انو أدنبرة فيها أكبر معامل تقطير البيرة Brewery ؟؟
مسحتْ دموعها بخجل بائن وانصرفتْ لتبدأ دراستها للامتحان .