
دكتور معاوية الشفيع
#ملف_الهدف_الثقافي
-يا دكتور تعال شوف الولد ده.
قالتها الممرضة في هلع ظاهر.
جريت، لأكشف على طفل، رضيع، عار كليًا، على طاولة الكشف. كان في حالة “جفاف” بيِّن، لا أبالغ، إذا قلت إن جسمه كان خاليًا من الماء تمامًا، هذا الطفل ليس جافًا، بل هو يابس. فكرت أن ما ينقذه من الموت، ليس أن يشرب الماء، بل أن يشربه الماء. لهذه الدرجة-وبلا مبالغة-كان جافًا.
أمليت على الممرضة ماذا تفعل، وشرعت-هي- في تنفيذه، بسرعة وجدية. وخرجت-أنا- إلى ردهات المركز الصحي، القابع في أحد أحياء امدرمان الطرفية جدًا، طفقت أبحث عن الأم، التي قيل أنها – ويا للعجب-خرجت لتبحث عن ماء، تشربه. تذكرت “فرحات عباس”:
قطرة ماء، تشربني
فأنا أقضي ظمأ”،
أيعز عليكم، أن أظمأ،
(كنت أود مقابلة فرحات، لأقترح عليه، أن يستبدل (يعز)، ب(يهون)، لكن تلك قصة أخرى.
أعذروني-سيداتي، سادتي-، فكثيرًا ما أسرح في آفاق داخل نفسي وأنا أعمل).
انتظرت أم” الطفل اليابس”، عند المدخل، وأنا أفكر: كيف بلغ الطفل الرضيع هذه المرحلة من الجفاف؟ أهي نزلة معوية؟ هل ضربت “الكوليرا”، المنطقة، و”نحن ما عارفين”؟؟ هل هو مريض بمرض خلقي/وراثي، من النوع الذي يصيب الأطفال بإسهال/قيء مزمن؟؟ ولماذا لم تأت بالطفل للمركز، قبل أن يصل مرحلة ما قبل الموت، هذه؟؟
واجهت الأم النحيفة، البائسة، متحجرة الدمع على المآقي، بكل هذه الأسئلة-دفعة واحدة-، حالما دلفت إلى أرض المركز، وأُشير لي نحوها. نفت أن يكون بطفلها، أي مما ذكرت من الأمراض، وحينما قلت لها، خبريني-إذن- كيف وصل به الأمر إلى هذه الحالة المتأخرة؟ استعصمت بصمت حزين، لم تفلح كل محاولاتي وما درسته من “مهارات التواصل”، في زحزحتها عنه. ولما وقف حمار شيخي في عقبة الحيرة، رفعت عيني عنها، اتلفت يائسًا، فالتقتا – أي عيني- بعيني الخفير، الذي كأنما كان ينتظر هذه اللحظة بفارغ الصبر، فأشار إلى أن أتبعه، ثم انحاز إلى شجرة غبشاء – بفعل الغبار-، لكنها ظليلة، -في ذلك المكان، والزمان-، تبعته بسرعة، تاركًا المرأة مطرقة إلى الأرض، فلم تنتبه لما يدور، لكنها-حتمًا- ارتاحت لمغادرتي وخلاصها من جحيم الأسئلة…..
تحت تلك الشجرة، دار حوارنا: –
–يا دكتور ما تتعب نفسك، ما حتتكلم.
–منو الما حيتكلم؟
–أم الطفل الداير يموت ده.
–ما حيموت-يا عم عثمان- (كنت أعرفه)، لكن
ليه هي ما عايزة تتكلم؟؟
–يا دكتور، دي حاجات انتو ما بتعرفوها، ولا
درسوكم ليها في كتب الطب.
(ابتلعت الإهانة، وأنا الذي درست في جامعة، تقوم فلسفتها، على الارتباط بالمجتمع (Community Orientation). ثم سألته:
— انت عارف؟ قول لي.
خفض صوته، حتى صار همسًا،
–الست دي، -ومثلها كثيرات-تقوم ب(تأجير) طفلها، للشحادات، ليتسولن به أمام البقالات الكبيرة، وتقاطعات الشوارع، حيث تتوقف العربات،
–لكن ده صغير، لسه برضع.
نظر إلى كمن ينظر إلى عبيط، وأردف:
–ما هو ده المطلوب، ده “عدة الشغل” يا دكتور، في ناس ما بتتعاطف مع المره(المرأة)، إلا تكون شايلة شافع.
ألجمني الذهول برهة، ثم قلت ببلاهة:
— طيب الجاب ليهو “الجفاف” شنو؟
هذه المرة، أيقن بأنني “عوير، عديل كده”، إذ قال بصوت لا يخلو من حدة:
–يا دكتور انت ما بتفهم؟ “كلاب الحر” ديل،
حايماتن بيهو تحت الشمش من تشرق، لامِن
تغيب، وطبعًا لا برضعنو، ولا بشترن ليهو الموية الغالية، أم عشرين جنيه، دي.
سكت فجأة، وقد شلت إفادته الأخيرة، تفكيري، و “برَّدت حيلي”، مضى وتركني باركًا، أضغط بكلتا يدي على رأسي، لتمنعا، دماغي من الانفجار.
لا أدري، كم مضى على من الوقت، لكني (وقفت على طولي)، ونفضت التراب من بنطلوني فوق الركبتين، ثم تحركت، وقد بت موقنًا، أن ما ترتكبه أم الطفل المذكور، ما هو إلا ج-ريمة مكتملة الأركان، ولا بد من التعامل معها، (بالغانون)، لذلك-بعد أن عدت إلى عيادة المركز، واطمأننت، على تحسن حالة الرضيع-، وسريان الماء في عروقه أسرعت إلى قسم الشرطة، لا ألوي على شيء. طلبت مقابلة الضابط، المسؤول، بادرني بالترحيب، كان شابًا بشوشًا، ذو خلق وتهذيب.
استمع إلي، بكل جوارحه، وأنا أحكي له القصة “من طق طق، لسلامو عليكم”، لم يقاطعني، البتة، استمع إلى كحاكم عادل ينصت لنبضات قلوب شعبه(هههه)، ختمت حديثي بحماس، يطالبه بفتح بلاغات ضد تلك السيدة، تحت طائلة القانون الجنائي، وقانون حماية الطفل، هنا ابتسم الضابط برزانة وقال-بأدبه الجم-:
–حاضر يا دكتور، انت تتكرم ترجع مركزك، وأنا حأقوم-بنفسي-بالتحري حول الموضوع وقبل نهاية اليوم، حأجيك في مكانك، وأوريك حنعمل شنو.
خرجت منه، وقد زال عني بعض غم، وعدت أواصل عملي، بنصف عقل ووجع -لا أدري كنهه- يعتصر قلبي.
حوالي الخامسة مساء، جاءني الضابط، بملابس مدنية نظيفة، وأنيقة، أخفت هويته المهنية، لكنها لم تنجح في إخفاء ما يبدو عليه من رهَق.. حياني دون أن يجهد نفسه بتكلف الابتسام، وجلس-دفعة واحدة-، دون أن أدعوه لذلك-كما جرت عادة الاتيكيت-، قال بصوت كئيب، لكنه حاسم، باتر:
— زي ما قلت ليك، يا دكتور، قمت بالتحري، وأقول ليك بصراحة؟ ما حأعمل أي حاجة للست دي.
نظر إليٌّ بتركيز، وكأنه ينتظر ردة فعلي (القوية)، لكنني اندهشت، للمرة الثالثة في ذلك اليوم، لم أرد، وإنما رفعت إليه حاجبين متسائلين.
–المره(المرأة) دي، عندها سبعة شُفَّع، أكبرهم عمرو حداشر سنة، وأصغرهم مريضك ده، زوجها، مشى الدهب، ومن سنتين ما جاء راجع، غِنى وشرد مع مره تانية؟؟ ممكن. انهار بيهو بير تعدين؟، جايز.؛ راح، مات بالعطش؟ بحصل كتير…. كتلو الزئبق؟؟ الله أعلم ….
السيدة العظيمة دي، عايزة تعيش عيالا ديل، طبعًا طلَّعت الفي عمر التعليم، من المدارس، ده ترف، ما بقدروا عليهو، وهسه ببيعوا موية في سوق ستة، أو سوق ليبيا، أو أم دفسو، لا فرق. ومريضك ده؟؟ انت عارف.
خيل إلى أن صوته يأتيني من بئر سحيقة، أو قبر موحش.. بعد هنيهة صمت، سمعت نفسي أقول :
–لكن يا جنابو، ما لازم تعمل ليها حاجة، دي-في النهاية- ج-ريمة، بل ج-رائم، في حق الأطفال.
— أعمل، ليها هي؟؟ ما بقدر، قول لي انت، أعمل شنو؟؟
أطرقت، حككت صلعتي، نظرت إليه، دون أن أراه، وحينما نطقت بكلمات شكر في حقه، كان قد ذهب.
نظرت من النافذة، فرأيت حمرة الشفق، تغطي المكان، تأوهت، مرددا، بيت “محمد الواثق”:
إن الحكيم، الذي ترجو المساكين
قال الثقات لنا، لا شك مجنون.
–تمت–
هوامش:
–لا تنظروا للقصة دي بمقاييس الأدب، لأنها حقيقية، ما “حصلت لي”، لكن “حكاها لي واحد” صاحبي، ويمكن مراجعته، أنا – كأي متعلم سوداني–زول نرجسي، بحب أحكي بضمير المتكلم، (أنا).
-قام صديقي بالاتصال بمنظمة َوبعض خيرين، وأسهم في دعم هذه الأسرة التعيسة بمعينات البقاء على قيد الحياة، لكنه يتساءل – وأنا معه- كم مليونًا من مثل هذه الأسرة يحتاج لدعم حقيقي؟؟ وليس كدعم إبراهيم البدوي.
– كان صديقي قد حول طلبه للضابط بفتح بلاغات ضد المجتمع كله والحكام منذ الأزهري، وحتى حمدوك، فضحك الضابط واتهمه بالجنون.