كمال كرار وأزمة الخطاب الشيوعي

كمال كرار وأزمة الخطاب الشيوعي

محمد الأمين أبو زيد

استشاط السيد كمال كرار غضباً في الرد على الناطق الرسمي للبعث، المهندس عادل خلف الله، الذي وصف مواقف الحزب الشيوعي بأنها تعاني من أزمة منهجية أفقدته القدرة على تحديد اولوياته، ومن أبرز تجليات ذلك موقفه من معارضة (فترة انتقالية) ومناصبته العداء للحرية والتغيير، ودون ان يشير كرار لهذا النص في صحيفة (الصيحة)، ركز على وصف النرجسية التي أشار إليها خلف الله كنتاج لأزمة المنهجية التي جعلت مواقف الشيوعى تبدو خليط من الأوهام والرغبات.

الإشارة إلى النص من بديهيات الرد الصحفي، فكيف تغيب على أحد كتاب جريدة الشيوعى وعضو لجنته المركزية؟

أورد كرار في مقال له أن (البعثيون شاركوا العسكر السلطة الانتقالية)..
حزب البعث جزء من كتلة الإجماع الوطني التي كانت ضمن خمسة كتل تشكل تحالف قوى الحرية والتغيير، وهي ذات الكتلة التي كان فيها الحزب الشيوعي والتي كان يمثلها – أي كتلة الإجماع- عضو الحزب الشيوعي الأستاذ صديق يوسف في المفاوضات مع العسكريين، وظل حاضراً حتى توقيع الوثيقة الدستورية، وهو من وقع على الاتفاق السياسي بين الحرية والتغيير والمجلس العسكري باسمه، وصوره، وهو (مبسوط 24 قيراط) بمعانقة (العسكر)، تعج بها الوسائط، وهو أدرى بكيفية إجازة الوثيقتين والتوصل لتفاهماتهما المنكورة، بل ظل مشاركاً في حكومة الفترة الانتقالية الأولى والثانية بأكثر من وزير عبر الواجهات المعلومة، ومشاركاً حتى بعد انقلاب البرهان من خلال والي الجزيرة! إنكار الحقائق وتدليسها والميل الدائم لتجريم الآخرين بتجميل الذات، هي من مظاهر أزمة المنهجية وحب الذات التي أشار إليها الناطق الرسمي للبعث، وما أورده كرار يؤكدها ولا ينفيها.
لأن حزب البعث يحترم الجماهير، أعلن عن مشاركته الرمزية في السلطة الانتقالية، رغم أن ترشيح ممثليه جاء عبر عدة أجسام جعلت قوى الإجماع الوطنى تقدمهم كمرشحين لها، وهو ما لا يفعله حزب كرار، والأنكى اعتباره لذلك ( شطارة). كما أن البعث بتجربته يتأكد احترامه لأسس العمل الجبهوي التي تحتم التوافق لا التفرد، والاستعداد للمشاركة ضمن المسؤلية الوطنية ضمن ظرفها وتوازنها المعلوم، لكنه لم يخوّن الحلفاء ولم يتنكر لمسؤليته في هذا الجانب، وقد أعلن ذلك عبر بيان فى يونيو بعد التوصل للاتفاق السياسي تضّمن الإشارة إلى نضاله من داخل مؤسسات السلطة الانتقالية وخارجها لتحقيق تطلعات قوى الديمقراطية والتغيير بتطويره وتعديل موازين القوى.
في سياق آخر ذكر: (البعثيون كانوا في سرج واحد مع البرهان وهو يقابل نتنياهو، ولم ينطق وزير بعثي برفض التطبيع داخل مجلس الوزراء وممثلهم في السيادي “عمل نايم” ).
مثل هذا الحديث عندما يصدر من شخص عضو لجنة مركزية في الحزب الشيوعي ويفترض أن يكون متابع للشأن السياسي ومعلوماته دقيقة، وراصد للمواقف السياسية، فإنه يدعو للدهشة والحيرة ويشير الي أزمة منهجية تنتاب تفكير الحزب، حيث أن مواقف الوزراء الذين وقفوا وجاهروا بالموقف الواضح ضد التطبيع في داخل اجتماعات مجلس الوزراء كان أولهم الوزير البعثي الوحيد د. يوسف آدم الضي مرشح كتلة قوى الإجماع لوزارة الحكم الاتحادي، وفي مجلس السيادة كان عضو المجلس د. صديق تاور مرشح الإجماع في المجلس، الذي عبر عن رفضه الخطوة الانفرادية، وانها ليست من مهام الفترة الانتقالية، وانها لم تطرح فى أروقة مجلس السيادة، وعبر عن هذا الموقف في كافة القنوات الإعلامية وهو شئ لافت للنظر، ويطرح السؤال حول سر جرأة الشيوعيين الذين يظهرون إعلامياً في إنكار المعلوم. وثمة سؤال آخر للسيد كرار، ألم يخبرك شيوعيي الواجهات في الحكومة، بتلك المواقف إذا كنت انت لا تتابع؟
ضمن حالة تثير الشفقة السياسية يورد كرار: (البرهان قال هو ضمن من خططوا لانقلاب رمضان البعثي)، لاحظ يستخدم كرار نفس مفردة البرهان والفلول بوصف حركة رمضان بالانقلاب، ليعرف السيد كرار أن رمضان انتفاضة مسلحة قادها شرفاء القوات المسلحة انحيازا لاستعادة الحياة الديمقراطية وهي حركة قيادتها من الوطنيين والديمقراطيين والبعثيين، وهي ظلت محل فخر واحترام كافة القوى السياسية السودانية باعتبارها أولى المواجهات التي استهدفت قبر انقلاب الكيزان في مهده، أما حكاية الترويج بأن البرهان ضمن مخططيها فهذا موقف مريب إذ ليس من المعقول أن لا يمتلك حزب سياسي كالحزب الشيوعي تصنيفا لحركة رمضان وقواها المشاركة فيها، وارتباطها بحركة المعارضة السودانية والتطور الوطني.
أيضاً أورد في فقرة في مقاله (أصحاب القومية!! لم ينطقوا بكلمة عن وجود القوات السودانية ضمن التحالف السعودي وهو تحالف أسقط نظام البعث العراقي ضمن الجيوش الأمريكية التي دخلت بغداد)..
عندما قلت ان هناك أزمة منهجية، وهى جوهر إفادة خلف الله للصيحة، لم أكن متجاوزا أو متجنياً، عضو لجنة مركزية لايعتني حتى بضبط المفهوم السياسي. القومية ليست فكرة سياسية، بل القومية حقيقة تاريخية مرتبطة بوجود الأمة، ومن أسقط تجربة الحكم الوطني القومي التقدمي ليس التحالف السعودي، إنما التحالف الثلاثيني بقيادة أمريكا وتوابعها من أنظمة إقليمية ودولية، بما فيها روسيا وعملاءها المحليين. وللمفارقة دخل معهم الحزب الشيوعي العراقي وسكرتيره على ظهور الدبابات الأمريكية، عرابين للاحتلال ومشرعنين له في جريمة احتلال العراق وتدميره وإسقاط نظامه الوطني، ومشاركته في دستور بريمر ولعبته السياسية.
فهل كرار على علم بلقاء وفد من حزبه مع الحزب الشيوعي العراقي في العراق المحتل، إضافة إلى لقاءات أخرى في عواصم عربية وغربية، أم أن تخصصه التجني على قوى الحرية والتغيير
ودعم جهود قوى الردة وانقلابها؟
العبارة أدناه لكرار: (البعث في حكومة حمدوك مرر السياسات الاقتصادية التي وضعت بلادنا في قبضة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)…
عندما يتنكر السياسي لأشياء معلومة على نطاق واسع، وهو نفسه جزءاً منها ومشاركاً فيها، يفقد ما يورده أي قيمة ووزن. لقد نسي السيد كمال كرار أنه كان عضوا في اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير والتي كان الناطق الرسمي للبعث عضوا بارزا فيها أيضا، وهي اللجنة التي ابلت بلاءاً حسناً في بلورة رؤية اقتصادية متكاملة لحل مشكلات الاقتصاد الوطني وصولاً لمقررات المؤتمر الاقتصادى، وهي اللجنة التي كانت منسجمة انسجاماً تاماً، ولم يأخذ حمدوك بتوصياتها برغم تأكيده على الالتزام بها، وتنكر لها لاحقاً . فلماذا الانكار وتجريم الآخر، أليست هى (النرجسية)؟
في إطار تغبيش الوعي أيضاً ذكر كرار: (ارتضى البعث أن يختطف العسكر ملف السلام والاقتصاد والعلاقات الخارجية)..
هذه الملفات مسؤلية رئيس الوزراء، وقد شكل تنازله عن ممارسة مهامه المنصوص عليها دستورياً، فرصة للتمدد والهيمنة من قبل العسكر، وهي بالتأكيد ليست مسؤلية حزب البعث الممثل بوزير لا تخفى مساهمته في ملف السلام، والذي حضر جزء من مفاوضاتها في جوبا صديق يوسف صاحب مقترح (90) مقعد للسلام فى اجتماعات الإجماع الوطني ..
أما ملف السلام فالسبب الأساسي في تدخل العسكر فيه، هو رغبة الحركات المسلحة في التفاوض مع العسكر ورفض التفاوض مع الحرية والتغيير، وذلك مرتبط باجندة تفاوضية وتكتيكات برزت مقاصدها لاحقاً.
قال كرار مجاوباً على نفسه بنفسه: (سيردوا علينا بالقول الني عن إصدار بيانات شجب واستنكار!!!)
البيان أداة إعلامية وسياسية توعوية وتعبوية تعبر عن الموقف السياسي والفكري للحزب وتوثق له، وهي مرجع لرصد مواقف الحزب، وإحدى وسائل صلاته بالجماهير، ومن المفارقات أن الحزب الشيوعي يستخدم ذات الأداة، وتزدري من قبل أحد قياداته!! (لله فى الحزب الشيوعي شئون ).
مخاطباً البعثيين: (لماذا لم يخرجوا من السلطة، ام أن بريقها يعمي الأبصار؟)
السلطة الانتقالية أداة لتنفيذ الأهداف السياسية المتوافق عليها، وهي وسيلة وليست غاية في حد ذاتها، والسلطة المعنية ظل الشيوعي في مفاصلها حتى انقلاب البرهان.
أزمة المنهجية والنرجسية المشار إليها تظهر جلية في سماح الشيوعي لنفسه المشاركة في السلطة الدكتاتورية التي قادته لتكرار المشاركة في الإنقاذ، وبأبرز قياداته، والتي يصح فيها الجملة التي أوردها أن بريقها يعمي الأبصار، لأنها، أي المشاركة فى السلطة، جعلت الشيوعي ( يطير عقله) الذى انتقد فى مؤتمر مشاركته فى نظام عبود.
الشيوعي بقدرة (النرجسية) الطاغية على نفسيته يبيح لنفسه المشاركة في الدكتاتورية، ويخون الآخرين لمشاركتهم فى سلطة انتقالية.
البعث يفهم جيداَ دوره في المرحلة الانتقالية، ولم يتنصل من مسؤلياته في إطار العمل المشترك بحثا عن موقف انفرادي او تطهري، أو استسهال، بل ظل يناضل ويصارع داخل مؤسسات الفترة الانتقالية وخارجها، في سبيل تحقيق أهداف الثورة. وظل دور البعثيين المشاركين فيها بارزاً ومحل تقدير جماهير شعبنا (لجنة إزالة التمكين نموذجاً).
وأيضاً قال: (الشيوعي ضد التسوية ومع الثورة… الشيوعي لا يبيع دم الشهداء، التسوية تطبخ الآن باسم حقن الدماء) …
للأمانة والتاريخ لعب البعث دوراً كبيراَ في إثناء الحزب الشيوعي عن التماهي مع خط التسوية السياسية وإرجاعه إلى خط النضال الجماهيري في الإضراب السياسي والعصيان المدني الذي تبناه تحالف الإجماع الوطني، عندما ذهب لمؤتمر نداء السودان في باريس المتبني خيار التسوية مع نظام الانقاذ!! غير مستفيد من تجربة دخول برلمان الانقاذ وشرعنته في إطار قاطرة الحركة الشعبية، فهو مؤسس نهج التسوية والهبوط الناعم وفق قرار الاتحاد الافريقي (456)، ومنسق لأنشطته عبر صديق التوم، عضو مركزيته ومنظمته. البعث لم يشارك في أي لقاءات خارج السودان، بينما (تحكر) حزب كرار في اديس وبرلين وباريس، مراراً في إطار تفاهمات (الهبوط الناعم)، واحتل الترتيب العاشر فيمن عادوا من الهبوط الناعم إلى الإجماع الوطني، وإلى الموقف الذي تمسك به البعث، والمتمثل في إسقاط النظام عبر الانتفاضة الشعبية. أيعقل أن يكون عضو اللجنة المركزية ليس محاط علماً، ام أنها (النرجسية)؟
إذا كانت التسوية تطبخ الآن باسم حقن الدماء؛ لكان من باب أولى أن تقبل الحرية والتغيير باتفاق حمدوك – البرهان في نوفمبر تحت ذات الدواعي والأسباب. الحرية والتغيير موقفها واضح جداً وهو الدعوة لبناء جبهة شعبية واسعة للديمقراطية والتغيير لهزيمة الانقلاب، والاتيان بالبديل الديمقراطي.
وورد: (تطير وفود البعثيين إلى الولايات بعد أن قنعوا من تدجين لجان الخرطوم)..
هذا فهم فطير في المقدمة والنتيجة، لقد ذهبت الحرية والتغيير في وفد لمدينة ود مدني وهنالك خطة للتواصل مع قوى الثورة في كافة أنحاء السودان بهدف توحيد مركز القرار للعمل المعارض للانقلاب وهزيمته وإزالة التناقضات الثانوية لصالح أولويات المرحلة في إسقاط الانقلاب. وهل فى عرف شيوعيي كرار أن النضال حصراً على العاصمة؟ هل لجان المقاومة ملكاً عضوضاً للشيوعي وفقط فى العاصمة؟ إنها المضحكات المبكيات.
البعث في قلب لجان المقاومة، وشبابه جزء فاعل فيها، في الخرطوم والولايات، وهو يدرك تماماً محاولات التجيير السياسي ونزعات التفرد ومرض الطفولة اليساري الذي يسيطر على نمط التفكير القاصر ومحاولات التخفي خلف الواجهات لضمان المكاوشة في التمثيل.
البعث حريص على وحدة وديمقراطية واستقلالية لجان المقاومة وكافة الأطر الديمقراطية والفئوية، ومثلما هزم مخطط التجيير والتشطير وتزييف إرادة العاملين وسط النقابات؛ سيهزم مخطط التجيير والتفتيت الذي يمارسة الشيوعي والذي يتلاقى، اذا كان لا ينسق، مع قوى الردة والانقلاب وأجهزتها السلطوية. ومن أبرز ذلك موقف ودور واجهاته وعضويته وسط بعض المهنيين وضمن مكونات الحرية والتغيير، ومواقف عناصره داخل هياكل بعض لجان المقاومة.

المرحلة التي يمر بها النضال الوطني عنوانها الديمقراطية والتغيير، باعتبارها العناوين التي تحظى بحشد أكبر قطاع جماهيري في تحالف لهزيمة الانقلاب، فالقفز فوق المرحلة واولوياتها، أو الغرق في التكتيكي على حساب الاستراتيجي في إطار البحث عن مكاسب آنية ضيقة، لن يخدم مسار استعادة التحول الديمقراطي كمدخل للبديل الوطني التقدمي الذي يناضل ويعمل فى سبيله حزب البعث انطلاقاً من حيوية فكره الثوري ومنهجه الخلاق.