يحاول هذا المقال الإجابة على فرضيات أساسية واسقاطها على الواقع السوداني في محاولة لاكتشاف عقدة لماذا نحن نتأخر ولا نتقدم؟
الفرضيات التي يثيرها المقال هي:
ما هو الفهم المطلوب للحداثة ومدى اقترابنا أو بعدنا عنه؟
في أي مرحلة تاريخية من الحداثة نقف كمجتمع؟
هل الوصول للحداثة سهل اجتيازه أم يتطلب صراع متطاول؟
مفهوم الحداثة:
هنالك تعريفات متعددة للحداثة أهمها ما يلي:
* يقول عالم الاجتماع الفرنسي الان تورين: إنها تعني انتصار العقل وإحلال العلم محل اللاهوت المسيحي.
* يقول الفرنسي جان بوديار: إن الحداثة نمط حضاري مضاد للنمط التقليدي الذي يسيطر على البشرية قرون وقرون..
* يقول يورغن هابرماس: تعني تفكيك التصورات الأصولية القديمة للعالم وحلول التصورات العلمية والفلسفة محلها.
جوهر الحداثة هي حرية التفكير والتعبير واستقلالية الضمير البشري، وعليه فإنه لا يوجد بلد في العالم ضد المفاهيم الحداثوية المتمثلة في التقدم الصناعي، والاقتصادي، والتنموي، وسيادة الحريات وحقوق الإنسان والديمقراطية، ولكن الوصول إليها لابد أن يعبر بطريق صعبة وتضحيات كبيرة.
إن الحداثة ليست كل موحد، وإنما الحداثة حداثات فكرية ومادية وتكنولوجية وصناعية ودينية… الخ.
يتوهم الكثيرون إن الحداثة تكمن في نقل التكنولوجيا الغربية، ولا يوافق على معرفة حتى النظريات الفلسفية التي قامت عليها، وأدت إلى صنعها بل ينتقدها بشدة، وسابقا كان غلاة المتفقهين يحرمونها كتحريم التلفزيون والسينما والهاتف والتصوير… الخ، هذا الاختلال المعرفي تجاه الحداثة هو أشبه بالشيزوفرينيا أو انفصام الشخصية.
فالأفكار تقليدية والأجهزة حديثة أليس هذا هو ما يحدث في مجتمعاتنا؟
الحداثة والتراث والدين:
تعني الحداثة في إحدى تجلياتها انتصار العلم والعقل على النقل والتراث المتراكم، فالحداثة لا تدعو للتخلي عن التراث وإنما قراءته قراءة جديدة في سياق الجدل الزماني التطوري ماضيا وحاضرا ومستقبلا.
والحداثة ليست نقيض الدين، وإنما نقيض المفهوم الاستبدادي الطائفي المذهبي القسري للأديان. فالحرية هي أساس الدين وفق معنى الآية (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي).
إن مفهوم الحداثة في مجتمعنا ينبغي أن يجمع بين العلم والإيمان، ولا يفرق بينهما، لا كما تفعل التيارات المادية أو المتطرفة دينيا. كما فعل المأمون والمعتزلة في العصر الذهبي للحضارة العباسية في إطار مصالحة العقل والتراث، وكما فعل ابن رشد في كتابه (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال).
عندما سادت عصور الانحطاط اللاحقة وغابت المصالحة بين العقل والتراث ظللنا اسيرين لتفسيرين متعاكسين للدين، تفسير منفتح متسامح وسطي مستنير، وتفسير منغلق متعصب ظلامي تكفيري.
التطور التاريخي لمفهوم الحداثة:
الحداثة ظاهرة نشأت في أوربا منذ القرن السادس عشر، وبلغت ذروتها في القرنين التاسع عشر والعشرين وعلى ضوئها تم تقسيم التاريخ إلى:
* تاريخ ما قبل الحداثة ويشمل العصور الوسطى، وأبرز سماته محاكم التفتيش والفقر والجوع والزهد في الحياة، وانتشار أفكار الخوف والتعصب والحروب.
* ما بعد الحداثة، كانت الحضارة العلمية والتكنولوجية، والفلسفة والعلمانية، والتقدم المادي والاقتصادي، والحريات العامة.
نجحت الحداثة أوروبيا وغربيا، بينما تعثرت في مجتمعات أخرى، لماذا؟
بسبب إن الحداثة الأوربية ربطت بين العلم والفلسفة، هناك مقولة سحرية تقول:(لولا نيوتن لما كان كانط) أي لولا الاكتشافات العلمية لاسحاق نيوتن، لما استطاع فيلسوف الألمان أن يشكل أكبر فلسفة في العصور الحديثة.
أين موقعنا من الحداثة؟
بالرغم من الجهد الاستناري التجديدي في التراث الذي أسهم فيه مفكرون عديدون أمثال محمد أركون، ومحمد عابد الجابري وغيرهم، الذين كرسوا جهودهم الفكرية في تجذير استقلال العقل بالقياس إلى النقل والفلسفة بالقياس إلى الدين.
إننا بالنظر إلى العالم المعاصر نعيش مرحلة انتقالية، وهي من أشد المراحل صعوبة، فلا نحن في مرحلة ما قبل الحداثة، ولا نعيش في مرحلة ما بعد الحداثة، هذه المرحلة التي افتتحناها سودانيا بثورة تغيير، تمر بمرحلة صراع تاريخي معقد، وصيرورة لننتقل من ما قبل الحداثة إلى عصر الحداثة، ومن التخلف الحضاري إلى الديمقراطية والتنمية والحريات وحقوق الإنسان، ومن حالة عدم الاستقرار إلى الاستقرار، ومن حالة الولاءات الصغيرة والمتوسطة اجتماعيا وثقافيا، إلى تعظيم الولاء الوطني الكبير، ومن الصراع السلبي بأفقه الضيق إلى التوافق الوطني حول مشروع النهوض والحداثة، وتوجيه القدرات في إطار مشروع التحول السلمي الديمقراطي لهزيمة المشروع الرجعي الذي يجرنا للخلف.
إن المشروع الحداثي النهضوي الذي نصبو اليه هو مشروع تحرري شامل في كافة مجالات الحياة، لن نبلغه الا بإرادة وطنية جامعة تعلي الثوابت، وتكتشف معطيات المرحلة وترتكز عليها، وتنظر للمستقبل بجدلية انتصار العقل والعقلنة كشرط لازم للحداثة، بالإمكان أن تشتري الحداثة المادية بالمال، ولكن لا تستطيع أن تشتري بالمال الحداثة الفكرية والروحية، إن الانتقال نحو الحداثة الذي يوجه فيه العقل العلم وتطبيقاته، وينظم المجتمع لاشباع حاجاته، ويحل دولة القانون والشفافية والمؤسسية، محل دولة الفساد والاستبداد، يتطلب صراعا متطاولا تتحدد فيه الأولويات والمهام، وتحشد فيه كافة قوى المجتمع وفئاته وموارده.