واجب الساعة: درء المخاطر على الوحدة والسيادة والانتقال السلمي الديمقراطي

واجب الساعة:

درء المخاطر على الوحدة والسيادة والانتقال السلمي الديمقراطي

شكّلت مصادقة مجلس الوزراء الانتقالي بإلغاء قانون مقاطعة (إسرائيل) لسنة 1958، في السادس من أبريل، صدمة عنيفة للوجدان الوطني، وكخطوة تمهيدية جديدة من أطراف الحكومة الانتقالية، لاستكمال خطوات التطبيع مع الكيان الصهيوني، وإبرام اتفاقات طابعها الأساس أمني واستخباري، وتفاهمات اقتصادية للتغطية والتمويه، كما تناقلت ذلك وسائل الإعلام، لهثاً وراء (وعود) المقرضين والدائنين والمانحين. إن التعهدات التي قطعتها الحكومة الانتقالية، بلسان رئيس وزرائها، بأن يظل شأن مناقشة العلاقات مع دولة الكيان الصهيوني، شأن قومي يستلزم مناقشته داخل هيئة تشريعية منتخبة، وعدم الربط بين انهاء العقوبات الأمريكية و(التطبيع ). فيما أكد حزب البعث العربي الاشتراكي، والقوى السياسية والفكرية الرئيسة في البلاد، عن رفضها وإدانتها لهذا التوجه، الذي استهله علناً رئيس مجلس السيادة، بلقاء رئيس وزراء الكيان الصهيوني في عنتبي بيوغندا العام الماضي، وقد أعلنت قوى الحرية والتغيير عقب لقائها رئيسي مجلسي السيادة والوزراء، رفضها للقاء وما نجم عنه، وتحذيرها من مغبة السير في هذا المنحي التوريطي، وتأكيدها على أن هذا الملف ليس من مهام ولا اختصاصات مؤسسات الفترة الانتقالية. وأنه من مهام حكومة منتخبة، وبرلمان منتخب، يمتلكان بالانتخاب (شرعية شعبية)، كما فعلت الجمعية التأسيسية المنتخبة في 15 يوليو 1958، بإصدار القانون الذي تطاول مجلس الوزراء، وخارج نطاق اختصاصاته، بتخصيص جلسة لإلغائه.

إن قرار مجلس الوزراء بالغاء قانون مقاطعة (إسرائيل) في تاريخ السادس من أبريل؛ فيه استفزاز واضح للوجدان الوطني السوداني، الذي يحتفل في هذا اليوم بانتصاره على دكتاتورية مايو 1969، ويحتفل بمحاكمة المتورطين في قضية الفلاشا الشهيرة، والتي قامت فيها السلطة الدكتاتورية بمخالفة قانون مقاطعة (إسرائيل)، بالمساعدة بتهجير آلاف اليهود الفلاشا من اثيوبيا إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، توج بها النظام المايوي خيانته للقضية الوطنية بخيانته للقضية القومية، ولم يشفع له ذلك بحل أزمته السياسية والاقتصادية، كما ان ذلك لم يشكل طوق نجاة لنظامه من غضبة الشعب العظيم، وهو الشعب الذي في ضيافته وإرادته الغلابة وعنفوان معنوياته، اجتمعت الأمة العربية في الخرطوم، في عام 1967، ليجددوا عزمهم لمقاومة الاحتلال الاستيطاني في فلسطين، من خلال مؤتمر اللاءات الثلاث الشهير. كما ان المصادقة المجانية، بجانب انها استفزاز لكل العرب والمسلمين وأحرار العالم، الذين تعد فلسطين والقدس بالنسبة لهم، جزء من تاريخهم ووجدانهم، إضافة تاريخ نضالهم لمناهضتهم العنصىرية والتمييز والاستيطان، ولقيام الدولة الدينية العنصرية العدوانية، كما هي طعنة في ضمير المناضلين والثوريين في كل العالم، وهم يناضلون من أجل إنهاء الغطرسة والهيمنة الأمريكية والصهيونية في العالم، بإفشاء الحرية والديمقراطية والتعددية والعدالة والحوار الحضاري والكرامة الإنسانية والاستقلالية الوطنية والقومية.
فضلاً عن أن القرار يتجاهل حقيقة أن الظروف والأسباب والحيثيات التي أدت الى ان يتخذ السودان قرار إصدار قانون 1958، مازالت قائمة ومتفاقمة، بعد أن ظهرت، بشكل جلي، جرائم الكيان الصهيوني لكل الأجيال خلال نصف القرن الماضي، داخل فلسطين، ولبنان، وسوريا، ومصر، والعراق، والسودان، وليبريا، والكنغو، ويوغندا والعديد من البلدان الأفريقية والآسيوية الأخرى، الأمر الذي أدى، في فبراير من هذا العام، ان تُقرر المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، البدء في تحقيقات جنائية ضد دولة (إسرائيل)، بسبب ارتكابها جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية في مواجهة الشعب الفلسطيني. ومن جهة أخرى، يتناقض هذا الموقف مع مقررات البيان الختامي للقمة الإفريقية رقم (34)، الذي شارك فيه السودان بوفد رئيس مجلس الوزراء من هذا العام، والمتعلقة بإنهاء جميع أشكال التعامل مع (إسرائيل)، وإنهاء احتلال الأراضي الفلسطينية، ووقف الاستيطان، والتقيد بقرارات الأمم المتحدة حول فلسطين والقدس. يأتي هذا الموقف الأفريقي بعد أن تأكدت بلدان الاتحاد الافريقي أن (إسرائيل) مهدد جدي لأمن واستقرار القارة، ومنطقة البحر الأحمر، ودول حوض النيل، ولتماسك وسلامة نسيجها الاجتماعي، وأوضاعها الاقتصادية، وحماية منتجاتها الوطنية من التدمير. وهو ما لخصه المناضل التحرري نلسون مانديلا في خطابه التاريخي بالاستقلال (يظل استقلال جنوب افريقيا منتقصا ما لم تتحرر فلسطين)
وبالنظر لأولويات الحكومة الانتقالية، حسب الوثيقة الدستورية، والتي تعد بمثابة خارطة الطريق للفترة الانتقالية؛ فإنها معينة ومحصورة ومحددة في الوثيقة الدستورية، وكان الأولى لمجلس الوزراء أن يوظف الوقت والجهد في تنفيذ التزاماته المحددة في الفترة الانتقالية، وإصدار القرارات والقوانين الخاصة بتصفية وتفكيك الدكتاتورية ومنظومة الفساد وبنية التمكين، ودعم مطلوبات التحول الديمقراطي وبناء السلام ، بإجازة قوانين النقابات والتعاون، والبنك المركزي، والجهاز المصرفي، والبورصات، وإصلاح الوعاء الضريبي، وقانون الضرائب، باعتماد الضرائب النوعية والتصاعدية وقانون ضرائب الاتصالات، واستكمال هياكل الحكم الانتقالي …. إلخ، وفرض سيطرة الدولة على قطاع المعادن، وفي مناطق التوترات الأمنية. وبالتالي، القرار إجمالاً ليس من اختصاص الحكومة الانتقالية ولا من أولوياتها.
إن انتفاضة ديسمبر 2018 المجيدة، والتي خرج شبابها لإعلاء قيم الحرية والعدالة والسلام ، وضد الدكتاتورية والتسلط، ما كان ضمن شعاراتها وأولوياتها إضفاء الشرعية على الكيان الصهيوني المغتصب وإفراغ ثالوث أهدافها من محتواه التحرري، فالحرية لا تتجزأ، بل الحرية لنا ولسوانا .

ان ما تقوم به السلطة الانتقالية من انحرافات خطيرة عن مسار التحول الديمقراطي، ورهن البلاد إلى محاور وتحالفات استعمارية تعمل على إبقاء الوطن في سجن التبعية ومقيداً بسلاسل الديون والخنوع والرهان علي الغير والتبعية للمعسكر الأمريكي الصهيوني، وأدواته الإقليمية.

يشير إلى أن هنالك قوى داخل السلطة الانتقالية، من منطلقات ذاتية أو قناعات خاصة، تعمل على عزل السلطة من محيطها الاجتماعي والثوري، وتبديد تضحيات ومعاناة الشعب بالإمعان في الاتكاء على الخارج، وتقديم التنازلات المجانية للمزيد من التبعية وتعمد تغييب الشعب والمؤسسية في اتخاذ القرارات المصيرية، وإعادة تدوير أراجيف ما يسمونه بالمصالح الوطنية، و(إسرائيل) مفتاح باب الدخول لأمريكا، وبيديها مصباح علاء الدين لحل المشكل الاقتصادي،… إلى آخر تهافت خطاب من سبقوهم، ودون اعتبار من مصائرهم الكالحة.

ان من يتغابى عن المعطيات والحقائق، التي أفرزها الصراع الدائر في البلاد منذ نيلها الاستقلال السياسي، والتي تؤكد في جانب منها أن القضية الفلسطينية والعلاقة مع الكيان الصهيوني، إضافة إلى ما سبق، لم تكن في السودان يوم مجرد قضية علاقات خارجية، بل أنها قضية وطنية سودانية في المقام الأول، باعتبار أن الكيان الصهيوني مهدد للسودان كوجود، ودولة، وشعب، ومزعزع من الدرجة الأولى لأمنه ووحدته واستقراره الاقتصادي وسلامه الاجتماعي وفرص تعزيز تدامجه الوطني. وان من وافق على قرار إلغاء المقاطعة ليس حريصا لا على حاضر ومستقبل السودان، و لا لدوره الإيجابي في محيطه، ويدعم بوعي مخطط (إسرائيل الكبرى)، لا يقلل من ذلك دموع التماسيح التي زُرفت بعد المصادقة، بعبارة التمسك بالحق الفلسطيني ودعمه في ذيل البيان. وهو ما يطرح السؤال المنهجي: كيف يدعم من اختار الانحياز للعدو المحتل الاستيطاني التوسعي المهدد، للأمن والاستقرار بعد ان ساوى بينه وأعدل قضايا التحرر في التجربة الانسانية الحديثة ؟

إن مسألة مقاطعة دولة الكيان الصهيوني، ظلت على الدوام مسألة مبدئية لكل الشعوب المتحررة والمستقلة المناهضة للاحتلال والاستيطان والعنصرية والغطرسة الاستعمارية، وهو ما يدعو القوى الحية السياسية، والاجتماعية، والفكرية، والمهنية، والشبابية، إلى حشد إرادتها وتنظيم صفوفها لبلورة تيار وطني لدرء مخاطر الكيان الصهيوني على شعب السودان وأمنه، واستقراره، وانتقاله السلمي الديمقراطي وبناء السلام الشامل.