شهد الوطن العربي نوعين من الأحزاب : النوع الأول يمكن أن يسمى باسم ” الأحزاب العقائدية ” والنوع الثاني يمكن أن يسمى باسم ” الأحزاب السياسية ” . والأحزاب العقائدية هي تلك الأحزاب التي تمتلك نظرية فكرية تهتدي بها في نضالها من أجل تحقيق أهدافها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية ، ومنهجاً للتحليل يمكنها من دراسة الظواهر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وفهمها فهماً عميقاً . أما الأحزاب السياسية فهي الأحزاب التي لا تمتلك نظرية فكرية ولا منهجاً للتحليل ، ولا رؤية شاملة وعميقة للحاضر والمستقبل ، وليس لها سوى أفكار عامة غائمة ومشوشة تجعلها تتخبط في عملها السياسي ولا تمكنها من الغوص في حقائق الواقع وفهمها ، وتحرمها من رؤية المستقبل بعين بصيرة ووضع أسسه والعمل على بنائه . إن حزبنا المناضل ، حزب البعث العربي الاشتراكي ، هو من النوع الأول ، أي من الأحزاب العقائدية ، التي تمتلك نظرية فكرية ورؤية تاريخية أصيلة وشاملة وعميقة للحاضر والمستقبل ومنهجاً علمياً حضارياً لتحليل الظواهر وفهمها واستيعابها ، وهي ما تميزه عن الأحزاب ذات العقائد الجاهزة المستوردة منها والسلفية وما يجعله قادراً على خوض النضال بجدارة وثقة من أجل تغيير الواقع الفاسد وبناء مستقبل الأمة على وفق مشروعه النهضوي النظــري . إن نظرية الحزب الفكرية ، ورؤيته الخاصة للماضي والحاضر والمستقبل ، ومنهجه العلمي الحضاري في تحليل الظواهر ودراستها ، هو ما نطلق عليه اختصاراً عبارة : ” فكر البعــث ” . وكل دارس لفكر البعث لابد أن يلاحظ أن لهذا الفكر سمات واضحة يتسم بها ويتميز عن سائر الأحزاب الأخرى التي ظهرت في الوطن العربي . وهذه السمات هي سر حيوية هذا الفكر ومرونته وتجدده وقوة تأثيره وفعاليته وإيمان قطاعات غفيرة من الجماهير العربية به . سنحاول في ما يأتي تشخيص أبرز هذه السمات وأهمها … البعث فكر أصيل : يتميز البعث على سائر الأحزاب التي شهدتها الساحة العربية بكونه فكرة أصيلة لم تستورد معلبة وجاهزة من خارج الوطن العربي ، ولا وضعت في برج عاجي أو نسجت في مكتب معزول ، بل ولدت من رحم الأمة العربية كما يولد الأطفال من أرحام الأمهات . ولدت فكرة حية نابضة معجونة بآلام الأمة ومعاناتها فتشربت بنسغها ، وحملت روحها ، وعبّرت عن أصالة تاريخها وحضارتها ، وجسدت أحلامها وطموحاتها ونزوعها إلى التجدد والانبعاث والمشاركة في صنع الحضارة الإنسانية بدور متميز وأصيل . البعث فكر نضالي : لذلك كان فكر البعث فكراً نضالياً معجوناً بدم النضال اليومي الذي تخوضه الأمة ضد عوامل التجزئة والانقسام والتشتت ، وضد التخلف والفساد والظلم والاستغلال والهيمنـة الأجنبية . وهذا يعني أن فكر البعث ليس فكراً نظرياً مجرداً معزولاً في وسط ثقافي معين غايته المتعة الذهنية وتعاطي الأفكار والنظريات في أبراج عاجية معزولة عن آلام الجماهير ومعاناتها اليومية ، بل هو فكر يتجه إلى الجماهير نفسها ، يعلمها ويتعلم منها ، فهو يبصر هذه الجماهير بحقيقة هويتها وانتمائها ، وآلام واقعها وأسبابها ، ويرسم لها طريق التخلص من هذه الآلام ويقودها فيها ، ويجعل لوجودها غاية إنسانية ومثلاً أعلى هما رسالتها في الحياة ، وهو في الوقت نفسه يتلمس نبض هذه الجماهير ويتعلم من معاناتها ويستلهم منها ما يغنيه وينميه ويطوره ويحافظ على حيويته وتجدده . لذلك صح أن يوصف هذا الفكر بأنه فكر نضالي ، وصح أن يوصف نضال البعث بأنه نضال يستهدي بالفكر ويتخذ منه دليلاً ومرشداً .
فكر البعث قوة للتغيير : هذا يعني أن فكر البعث ليس مجرد نظريات وأفكار مسطرة في الكتب والكراسات ، تقرأ لأغراض المتعة والتسلية ، أو لأغراض الثقافة المجردة وتوسيع الآفاق ، بل هو قوة ملموسة قادرة على التغيير ، وتعتنقها الجماهير لتغيير واقعها المؤلم . وتتخلص من عوامل التخلف والفساد والظلم والاستغلال ، وتبني لها مستقبلاً حراً كريماً تتفتح فيه مواهبها وقدراتها وتزدهر ، وتصبح قادرة على إدراك مغزى وجودها والقيام بدورها الإيجابي في الحياة . وبهذا يستطيع فكر البعث أن ينمي العقول والأذهان ، ويغير النفوس ويهذب الأخلاق والسلوك ، ويقلب الواقع المؤلم ويبدله بغيره أفضل منه . وهو فكر شامل : وفكر البعث فكر شامل ، سواء في نظرته إلى واقع الأمة ، أم مشروعه لتحقيق نهضتها . فهو لا ينظر إلى مشكلات الأمة نظرة تجزيئية مبتسرة ، ويركز على مشكلة ويهمل المشكلات الأخرى ، بل ينظر إلى جميع المشكلات بوصفها وحدة متكاملة متفاعلة ، لكل منها أثرها في واقع الأمة ودورها في تعويق نهضتها ، فمشكلة التجزئة مثلاً لا تنفصل عن مشكلة الهيمنة الاستعمارية وتسلط الأنظمة الفاسدة والقمعية ، ولا عن مشكلة الاستغلال وهيمنة الطبقات الاجتماعية المستغلة ، ولا عن مشكلة التخلف الاجتماعي والاقتصادي والعلمي ، أو عن مشكلات أخرى كالعشائرية والطائفية والجهوية والقطرية ، فهذه المشكلات وغيرها مما لم نذكره هنا ، تشكل – كل متكامل متصل ومتفاعل – معوقات في طريق نهضة الأمة وارتقائها . لذلك كان المشروع البعثي لتحقيق هذه النهضة شاملاً هو الآخر : في الأهداف ، والوسائل والأساليب . ففي الأهداف تعبر الوحدة والحرية والاشتراكية وإطلاق طاقات الأمة من أجل تحقيق رسالتها الإنسانية تعبيراً موجزاً ودقيقاً عن هذا المشروع . والمشروع البعثي ليس مجرد مشروع نظري بل هو مشروع للتحقيق ووسيلة تحقيق هذا المشروع هو الحزب بوصفه طليعة ثورية تقود الجماهير في طريق تحقيق الأهداف المذكورة ، ولكي يستطيع الحزب أن يكون وسيلة فعالة في تحقيق الأهداف ، كان لابد له أن يكون حزباً قومياً في بنيته الفكرية والتنظيمية – أي في تكوينه الفكري وانتشاره التنظيمي . ولكي يختصر البعث الزمن الذي يتطلبه تحقيق مشروع النهضة كان لابد له من نبذ اسلوب التطور التدريجي البطيء ، واختيار الاسلوب الثوري والجذري في العمل والنضال . وهو فكر تقدمي مستقبلي : وفكر البعث فكر تقدمي مستقبلي ، فهو ليس فكراً سلفياً يتشبث بالماضي ويحن إلى العودة إليه ، بل هو يتخذ من أمجاد الماضي وحالاته المشرقة دافعاً لاستنهاض الجماهير من أجل تحقيق نهضة جديدة عصرية ، تنسجم مع متطلبات الحاضر والمستقبل ، باسلوب جذري وشامـل . وهذا يعني إن فكر البعث لا يتنكر للماضي ولا يدعو إلى القطيعة معه ، ولكنه في الوقت نفسه لا يريد أن يستعبده ولا أن يتحول إلى هدف يسعى إليه ، فالهدف هو المستقبل المنسجم مع روح العصر ومتطلباته ، والماضي هو الجذر الذي نشأت فيه الأمة وتكونت وتطورت وأقامت حضارتها ، وأصبحت جديرة بنهضة شاملة جديدة . إذاً فالزمن في نظر البعث لا يتجزأ ، فالحاضر هو نتيجة الماضي ، وما لم نفهم الماضي لا نستطيع أن نفهم الحاضر ونعمل من أجل المستقبل عملاً جدياً مثمراً . وهو فكر حضاري : وفكر البعث ليس فكراً معزولاً مغلقاً على ذاته ومكتفياً بنفسه عن كل جديد يقع خارجه، بل هو فكر حضاري متفتح ، يتفاعل مع غيره من الأفكار والنظريات تفاعلاً مستنيراً واعياً ببصيرة حادة وحساسية مرهفة ، فهو فكر جدل وحوار ، وعطاء واخذ ، لا يهمل الجديد أو يتعالى عليه ، بل يرفده ويسترفده ، ويعطيه ويأخذ منه . وبذلك يغتني هذا الفكر وينمو ويتجدد ويزدهر ، ويواجه حركة الواقع بحيوية جديدة ، ويجيب على ما تطرحه متغيرات الحياة من أسئلة ومعضلات ، ولا يقف جامداً أو عاجزاً أمامها ، منتظراً منها أن تجيب على نفسها وتجد حلولها بذاتها . وهو فكر ديمقراطي : إن هذا ” الانفتاح ” الذي يتسم به فكر البعث من أهم السمات التي تعبر عن جوهره الديمقراطي . ففكر البعث يعترف بوجود الآخرين الذين يختلفون معه في الرأي والأفكار والمناهج ، وهو لا يقف منهم موقفاً سلبياً مسبقاً ، بل يستمع إليهم ، ويقرأ لهم ، ويناقشهم ، ويعطيهم ، ويأخذ منهم ، ولذلك أصبحت ” روح الحوار ” سمة أخرى من سمات هذا الفكر . وهذا مما يجعله فكراً ديمقراطياً متفتحاً ، علاقته بالآخرين علاقة إيجابية مثمرة وبناءة . غير أن فكر البعث ليس فكر موجات طارئة وتقليعات عابرة ” موضات ” . بل هو فكر أصيل رصين له اسسه الثابتة وقواعده الراسخة ، وإذا كان هذا الفكر على استعداد للحوار مع الآخرين ، وتبادل الأخذ والعطاء معهم ، فانه لا يتأثر تأثراً سطحياً بكل ما يمر به أو يطرأ عليه ، بل هو يتامل ، ويناقش وينقد ، ويتقبل النقد ، ثم يتفاعل ، مع الثقة بالنفس ، مع احترام الآخرين والاعتراف بجهودهم . وهو فكر واقعي ممنهج : الفكر الواقعي هو الفكر الذي يصدر عن الواقع ويتجه إليه ، وهذا هو شـأن فكر البعـــث ففكر البعث ، كما قلنا سابقا ، ليس فكراً نظرياً مجرداً معزولاً ، بل فكر نضالي ، ولد من معاناة الأمة . وغاية هذا الفكر ليست المتعة الذهنية – بل العمل من أجل تغيير الواقع وبناء المستقبـل . على أن هذا الفكر لا يقيس الواقع ، بمساطر نظرية ، ويجيب على أسئلته ويحل معضلاته على وفق نصوص جامدة مدونة في الكتب والكراسات ، كما تفعل الأحزاب الشيوعية مثلاً ، بل هو فكر حي خلاق مبدع يتفاعل مع الواقع ، ويدرسه دراسة عميقة ، ويحلله حتى يصل إلى أسباب كل مشكلة من مشاكله وكل ظاهرة من ظواهره ، ثم يجيب على أسئلته ، ويوجد الحلول المناسبة لمشاكله . ومتى ما وجد البعث أن الجواب الذي قدمه جواباً ناقصاً أكمله ، ومتى ما وجد أن الحل الذي توصل إليه ليس بالحل الناجح بحث عن حل آخر . ومن هنا فان فكر البعث يستفيد من التجربة ولا ينتقص منها ، فهو وإن لم يكن فكراً تجريبياً يهتدي إلى الحلول بعد سلسلة من الأخطاء ، إلا أنه لا يتوهم العصمة في نفسه ، ولا يعتقد أن كل ما يتوصل إليه من حلول كامل متكامل سالم من النواقص والأخطاء والزلات . وهذا يعني أن فكر البعث لا يتوهم بأن لديه جواباً جاهزاً لكل سؤال يطرحه الواقع ، كما تتوهم الأحزاب الشيوعية والسلفية بل لديه منهج حضاري علمي يمكنه من دراسة الواقع وتحليله وفهمه والإجابة على أسئلته، وهذا المنهج هو مفتاح ، أو هو أشبه بالمفتاح يؤهله لفتح أبواب الواقع ومعاينة ما وراءها وفهمه واستيعابه والحكم عليه . وهذه ميزة في حد ذاتها ، من ميزات فكر البعث وسبب من أسباب حيويته وتجدده . وهو فكر علمي : وفكر البعث ليس فكـر تهويمات وشطحات في عالم الخيال ، ولا هو خرافات وأساطير ، ولا فكراً يعتمد على حلول جاهزة قدمتها تجارب أخرى في أمم أخرى ، ولا على أجوبة قدمت في مراحل تاريخية سابقة ، بل هو فكر علمي ، فكر يؤمن بالعلم والمعرفة ، ولا يتنكر لهما ، بل يتفاعل معهما ، ويستفيد من معطياتهما ، ويتقبل ما فيهما من جديد نافع ومناسب ويسخر منجزاتهما لتحقيق أهدافه وغاياته وفي مقدمتهما تغيير الواقع وبناء المستقبل . الخلاصــــة : إن حزب البعث العربي الاشتراكي حزب عقائدي ، له نظرية فكرية تعبر عن رؤيته التاريخية الخاصة بماضي الأمة وحاضرها ومستقبلها وكيفية تحقيق نهضتها الحضارية الجديدة . وله منهج علمي وحضاري ” طريقة واسلوب ” لتحليل الظواهر والمشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وفهمها وإبجاد الحلول المناسبة لها .. وكل ذلك هو ما نطلق عليه هنا عبارة ” فكر البعث ” . ولفكر البعث سمات ” صفات ” خاصة يتسم بها ، وهذه السمات هي سر حيويته ومرونته وتجدده ، وهي سر قوة تأثيره في الجماهير العربية وفعاليته في النضال من أجل تحقيق نهضة الأمة . ولعل أبرز سمات فكر البعث هي : إنه فكر أصيل ولد من معاناة الأمة وآلامها وتطلعها إلى مستقبلها الأفضل ولم يستورد جاهزاً كالفكر الشيوعي . وهو فكر نضالي يتجه إلى الجماهير فيعلمها ويتعلم منها . وهذه ميزة تميزه عن الأحزاب الشيوعية والأحزاب السلفية التي تتعالى على الجماهير وتسخر مسيرتها لأفكار مسبة جاهزة . وفكر البعث قوة لتغيير الواقع وسلاح فعال من أسلحة النضال . وهو فكر شامل سواء في نظرته إلى واقع الأمة ، أم في مشروعه لتحقيق نهضتها . وهو فكر تقدمي . مستقبلي ينسجم مع روح العصر ومتطلباته . وهو فكر حضاري متفتح يتفاعل مع غيره من الأفكار والنظريات تفاعلاً مستنيراً واعياً . وهو فكر ديمقراطي يعترف بالآخرين ويؤمن بضرورة الحوار معهم . وهو فكر واقعي ممنهج . فكر يصدر عن الواقع ويتجه إليه فيدرسه ويحلله ويفهمه ويقدم لمشكلاته الحلول المناسبة . وهو فكر يؤمن بالعلم والمعرفة ويتفاعل معهما ويستفيد من معطياتهما .