تقـديـم: نهدي هذا التوثيق لشـهداء انتفـاضـة مـارس أبـريـل.. نهـديـه، للشـهيدة مشـاعـر محمد عبد الله الطفلة ذات العامين.. إلـى أزهـري، وليـم، عبد العظيم.. وإلى الرفيـق الشهيد، محمد الحسـن فضل الله.. وعهدنا أن تبقـى مارس أبريل حية فينا وفي ضمائرنا. ——— إن الصراع السياسي الاجتماعي والاقتصادي والثقافي في قطرنا حقيقة موضوعية، وله أفقه التاريخي الذي يتجه نحوه.. صراع بين الجماهير الواسعة التي تريد حرية وطنها وتقدمه، انطلاقاً من تطور حركتها المستقل عن القوى المعادية للثورة الوطنية التقدمية بأفقها الاشتراكي، وبين فئة اجتماعية محددة تريد احتكار السلطة لمصلحتها الضيقة، ولمصلحة أسيادها الإمبرياليين، وهو ما طبع ساحة الصراع السياسي داخل السودان منذ أن نال استقلاله وحتى الآن. ضمن هذا السياق جاءت وتفجرت انتفاضة مارس ابريل المجيدة، التي لم تكن مجرد ردة فعل عفوية لإجراءات اتخذها النظام المايوي بزيادة الأسعار، إنما هي نتاج لتراكمات النضال الطويل والمرير، الذي ظلت تخوضه جماهير شعبنا لستة عشر عاما ضد هذا النظام، وضد نهجه السياسي والاقتصادي.. فالنظام المايوي كان جوهره معاديا لتطلعات جماهير شعبنا في الحرية والديمقراطية، والتقدم الاقتصادي والاجتماعي، والحياة الحرة الكريمة، وذلك لأنه كان يقوم على ركائز تتناقض جذريا مع هذه التطلعات.. ولقد جاءت انتفاضة مارس أبريل لتقضي على هذا الكابوس المرعب الذي جثم على صدر الوطن طوال ستة عشر عاماً. وهنا سنحاول بقدر الإمكان تقديم عرض يوضح مسيرة هذه الإنتفاضة المباركة وتطورها حتى انتصرت بإرادة الله والجماهير (مستندين في ذلك على كتاب: الفيضان – الوثيقة التسجيلية لإنتفاضة مارس أبريل – للأستاذ المناضل التجاني حسين دفع السيد)، وعلى الصحف التي صدرت في تلك الفترة، وعلى بيانات القوى السياسية المختلفة.
الثلاثاء 26 مارس 1985 ـــــــــــ إذا كان الأسبوع الأخير من شهر مارس، والأول من أبريل 1985 قد شهدا هذه الانتفاضة الشعبية، فإن نفس هذه الفترة من العام السابق 1984 كانت قد شهدت أيضا تصاعداً كبيرا في النضال ضد الدكتاتورية المايوية.. فقد حدث اضراب الأطباء في الفترة ما بين 24 مارس إلى 9 أبريل، وفي نفس تلك الفترة وبالتحديد في أمسية السادس من أبريل ظهرت أول كتابة على الحائط تضمنت شعارات: (العصيان المدني طريقنا لإسقاط النظام الفاشي) (الاضراب السياسي من أجل الإطاحة بسلطة الفرد) (ومية المية.. شعبنا جاع.. وضد نميري بالإجماع) وغيرهـا من الشعارات.. وقد حقق الأطباء في تلك الأيام انتصارا كبيرا على النظام الرجعي، حينما أجبروه على التراجع والخضوع والاستجابة لمطالبهم العادلة التي أشهروا في سبيلها اضرابهم المشروع. وإن كانت كل المطالب لم تتحقق بالمستوى المطلوب، ولكن ها هو التاريخ يعيد نفسه.. الفترة ذاتها من العام 1985 تشهد انتفاضة شعبية عارمة. إن فشل البرنامج الاقتصادي للنظام الرجعي كان واضحاً للجميع.. ويحس به المواطنون المغلوبون على أمرهم، والذين تزداد الهوة كل يوم بين دخلهم المحدود والأسعار المتصاعدة وتكاليف المعيشة المرتفعة، وقد شهد هذا الشهر ارتفاعا جديدا في الأسعار، وصل بأوضاع الجماهير الكادحة إلى درجة خطيرة من التدهور.. وهكذا كانت انتفاضة 26 مارس 1985.. ففي هذا اليوم خرج موكب طلاب جامعة أم درمان الإسلامية، ولم يذهب الموكب كثيراً، حتى كان عمال المنطقة الصناعية بأم درمان قد انضموا إليه، إضافة إلى أعداد هائلة من الجماهير الغفيرة التي تدفقت إلى الشارع، وهي تهتف: تسقط.. تسقط، سلطة مايو مية المية.. شعبنا جاع.. وضد نميري بالإجماع.. ثم هتفت الجماهـير: إلى الجمعية.. إلى الجمعية، حيث كانوا يقصدون (جمعية ود نميري التعاونية) التي كانت بؤرة الفساد والجشع والظلم، وتدفقت الجماهير نحو الجمعية، فأحرقت مبانيها بأم درمان، وتقدم جزء هائل من الموكب إلى مبنى مجلس الشعب بأم درمان حيث انضمت إليه جماهير المواطنين رجالا ونساء يهتفون بسقوط النظام العميل.