عبد الله خيار
كاتب إرتري
بينما كانت “حواء إيلا” تضبط نظارتها الطبية المقعّرة وتنادي على ابنتها بالتبني “مريم”، استجابت الأخيرة لندائها بسرعةٍ وود، كما اعتادت دائمًا. كانت مريم، الفتاة المخلصة، تتعامل مع طلبات حواء إيلا وكأنما تحمل في طاعتها اعترافًا بجميلٍ لا يمكن سداده.
جلست حواء إيلا على كرسيها الكبير المصنوع من الحبال، متكئةً برفقٍ على ظهره، ترقب حركة الزوار، الذين يترددون على منزلها بانتظام. هذا المنزل، الذي تخطى كونه مجرد مكان لتقديم الخمور البلدية، أصبح وجهةً شهيرة يقصدها الناس لما فيه من مزيجٍ نادرٍ بين جودة الخدمة والأسعار الزهيدة، وكأنها توازن بين الربح والإحسان.
لم يكن المال يومًا عقبة في بيت حواء إيلا. الزبائن الذين عجزوا عن الدفع لم يشعروا أبدًا بالحرج. كانت حواء إيلا تُظهر صبرًا ملفتِا وتُطيل أمد الثقة بينهم، مانحةً إياهم شعورًا بالأمل والتقدير. كانوا يدركون أن “اليوم ملك لهم”، أما “الغد فملك للرب”، كما اعتادوا أن يقولوا. وردًا على ذلك، كانت تبتسم وترد بعبارتها الشهيرة: “أنا كوسكي”، التي تعني بلغتهم المحلية (لغة الكونا ما*) أن الرب موجود ولن يخذل أحدًا.
صار منزل حواء إيلا معلمًا بارزًا في مدينة “بارنتو”*، ليس فقط بسبب جودة ما يُقدم فيه، بل لما يُحيط به من شعورٍ غامضٍ بالطمأنينة. الداخلون إليه يلمسون إحساسًا عميقًا بالراحة، وكأن سرًّا غير مرئي ينسج خيوطه حولهم. لماذا كانوا يثقون بها بهذا الشكل؟ ولماذا كان هذا المكان مختلفًا؟ أسئلةٌ كثيرة ظلت بلا إجابات واضحة.
في حيّ شعبي يُعرف بـ”حلة قرشين”، ارتبط منزل حواء إيلا بحكاياتٍ غامضة. الحي نفسه كان يحمل اسمًا له دلالات لم تُروَ بعد، والمنزل كان يتميز بمساحته الكبيرة وبمدخليه الشمالي والجنوبي. بحنكتها، قسّمت حواء إيلا البيت إلى قسمين: الأول لتقديم الخمور الإفرنجية، والآخر للخمور البلدية.
لكن الركن الجنوبي الشرقي كان مخصصًا لها شخصيًا، مكانًا تسحب إليه جسدها المُرهق طلبًا للراحة. وفي الركن الجنوبي الغربي، كان هناك بناءٌ آخر مخصص لاستقبال ذوي العاهات والمجانين وعابري السبيل. كانت حواء إيلا تُقدّم لهم الطعام والمأوى بلا مقابل، بوازعٍ من إنسانيتها، التي لا تعرف الحدود. فتحت لهم قلبها قبل أن تفتح بيتها، لتصبح أمًا لكل من ضاقت به الدنيا.
من بين أولئك الذين استضافتهم، كان “ليبوتي”، الرجل المشرد، الذي كان يجوب شوارع المدينة نهارًا، لكنه يعود دائمًا ليجد زاويته المحجوزة في منزل حواء إيلا. وبالقرب منه، كانت “عائشة كشنكا”، التي تجمع الخردة وتصنع منها الحُليّ، تقضي يومها في عملها الشاق قبل أن تعود إلى المنزل حيث تستقبلها حواء إيلا بحنان الأم.
حواء إيلا لم تكن مجرد امرأة عادية. الجميع في “بارنتو” كانوا يدركون ذلك. بيتها أيضًا لم يكن مكانًا عاديًا، كان مساحةً يلتقي فيها الناس، حيث تُبثُّ في نفوسهم سكينةٌ غامضة لا يمكن تفسيرها. كانت عيون الناس تراقب حواء إيلا بإعجاب وتساؤل، تحاول سبر أغوار السرّ، الذي تخبئه في قلبها.
رغم الشائعات، التي أحاطت بها، لم يُنكر أحد طيبتها وكرمها. كانت امرأةً استثنائية حملت عبء المحبة في مجتمعٍ متعدد الثقافات، حيث نجحت في أن تكون جسرًا يربط بين القلوب المختلفة.
وبعد رحيلها، تولت “مريم” إدارة المنزل، وكأن روح حواء إيلا الطيبة انتقلت إليها. وورثت البيت بما فيه من ذوي الاحتياجات والمجانين وظلت تعاملهم كما كانت تعاملهم حواء إيلا، حاولت مريم الحفاظ على إرثها، مستمدةً القوة من ذكريات الأم، التي تبنّتها. ومع أن المكان فقد جزءًا من ألقه وبريقه، إلا أن روح السلام، التي زرعتها حواء إيلا ظلّت تسكن كل زاوية فيه.
فلترقد روح المرأة العظيمة، حواء إيلا، بسلام في عليائها. كانت بحق نخلة باسقة في سماء “بارنتو”، امرأة أعطت ولم تأخذ، كانت رمزًا للطيبة والعطاء، وذكرى لن تُنسى.
* الكوناما إحدى المجموعات السكانية الإريترية القديمة. * بارنتو مدينة تقع في شرق إريتريا علي بعد 120 كيلومترًا من مدينة تنسي الحدودية مع مدينة كسلا.

Leave a Reply